التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } قيل: الخطاب للحُمْس؛ فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحَرَم، وكانوا يقولون: نحن قِطين الله، فينبغي لنا أن نعظّم الحرم، ولا نعظّم شيئاً من الحِل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجَمْع ويُفيضون منه ويقف الناس بعرفة؛ فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و «ثم» ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة. وقال الضحاك: المخاطَب بالآية جملة الأمة، والمراد بـ (ـالناس» إبراهيم عليه السلام؛ كما قال: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [آل عمران: 173] وهو يريد واحداً. ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة؛ فتجيء «ثم» على هذا الاحتمال على بابها؛ وعلى هذا الاحتمال عوّل الطبريّ. والمعنى: أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم من مزدلفة جَمْع؛ أي ثم أفيضوا إلى مِنًى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جَمْع.

قلت: ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة؛ للأمر بالإفاضة منها، والله أعلم. والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأوّل. روى الترمذيّ عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحُمْس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قَطِين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة؛ فأنزل الله تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ }. هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحُمْس هم الذين أنزل الله فيهم: { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } قالت: كان الناس يُفيضون من عرفات، وكان الحُمْس يُفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نُفيض إلا من الحَرَم؛ فلما نزلت: { أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } رجعوا إلى عرفات. وهذا نصٌّ صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معوّل على غيره من الأقوال. والله المستعان. وقرأ سعيد بن جبير «الناسي» وتأويله آدم عليه السلام؛ لقوله تعالى: { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115]. ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناسِ؛ كالقاضِ والهادِ. ٱبن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه. وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه، ومَظانّ القبول ومساقط الرحمة. وقالت فرقة: المعنى وٱستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفاً لسُنّة إبراهيم في وقوفكم بقُزَحَ من المزدلفة دون عرفة.

الثانية: روى أبو داود عن عليّ قال: فلما أصبح ـ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ وقف على قُزَحَ فقال: "هذا قُزَحُ وهو الموقف وجمْعٌ كلّها موقف ونَحرْتُ ها هنا ومِنىً كلها مَنْحَر فٱنحروا في رحالكم" . فحكم الحَجِيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغَلّس بالصبح الإمامُ بالناس ويقفون بالمشعر الحرام. وقُزَحُ هو الجبل الذي يقف عليه الإمام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع؛ على مخالفة العرب؛ فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون: أشْرِقْ ثَبِير، كيما نُغِير؛ أي كيما نقرب من التحلّل فنتوصّل إلى الإغارة. وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر صلّى بجَمْع الصبحَ ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشْرِق ثَبِير؛ وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس. وروى ابن عُيينة عن ابن جُريج عن محمد بن قيس بن مَخْرَمة عن ٱبن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس؛ فأخّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجّل هذا، أخّر الدفع من عرفة، وعجّل الدفع من المزدلفة مخالفاً هَدْي المشركين.

الثالثة: فإذا دَفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدّفع من عرفة، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العَنَق، فإذا وَجَد أحدهم فُرجة زاد في العَنَق شيئاً. والعَنَقُ: مَشْيٌ للدواب معروف لا يُجهل. والنَّصُّ: فوق العَنَق؛ كالخَبَب أو فوق ذلك. وفي صحيح مسلم: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسُئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة؟ قال: كان يسير العَنَق، فإذا وَجد فَجْوَةً نَصَّ. قال هشام: والنَّصُّ فوق العَنق؛ وقد تقدم. ويُستحب له أن يحرّك في بطن مُحَسِّر قدر رَمْيَةٍ بحجر، فإن لم يفعل فلا حَرَج، وهو مِن مِنىً. وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السَّكِينة وقال لهم: "أوْضِعوا في وادي مُحَسِّر، وقال لهم: خذوا عنّي مناسككم" . فإذا أتْوا مِنىً وذلك غُدوة يوم النحر، رمَوْا جمرة العقبة بها ضُحىً رُكباناً إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حَصَيات، كلّ حصاة منها مثل حَصَى الخذف على ما يأتي بيانه ـ فإذا رموها حل لهم كل ما حَرُم عليهم من اللباس والتَّفَث كله، إلا النساء والطِّيب والصيد عند مالك وإسحٰق في رواية أبي داود الخفّاف عنه. وقال عمر بن الخطاب وٱبن عمر: يَحلّ له كل شيء إلا النساء والطِّيب. ومن تطيّب عند مالك بعد الرّمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فِدْية؛ لما جاء في ذلك. ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء. وقال الشافعي وأحمد وإسحٰق وأبو ثور: يحل له كل شيء إلا النساء؛ وروي عن ٱبن عباس.

الرابعة: ويقطع الحاجّ التّلْبِيَة بأوّل حصاة يرميها من جمرة العقبة؛ وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك. والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطّئه عن عليّ، وقال: هو الأمر عندنا.

قلت: والأصل في هذه الجملة من السُّنة ما رواه مسلم "عن الفضل بن عباس، وكان ردِيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشيّة عرفةَ وغداةِ جَمْع للناس حين دَفعوا: عليكم بالسكينة وهو كافٌّ ناقته حتى دخل مُحَسِّراً (وهو مِن مِنىً) قال: عليكم بحصى الخَذْف الذي يُرْمَى به الجمرة، وقال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حتى رمى جمرة العقبة" . في رواية: "والنبيّ صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يَخْذِف الإنسان" . وفي البخاري عن عبد اللَّه أنه ٱنتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومِنىً عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حلّ لكم كل شيء إلا النساء وحلّ لكم الثياب والطّيب" . وفي البخاري عن عائشة قالت: «طيّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين، حين أحرم، ولحلّه حين أحلّ قبل أن يطوف؛ وبسطتْ يديه» وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء. والتحلّل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحلّ النساء وجميع محظورات الإحرام، وسيأتي ذكره في سورة «الحج» إن شاء الله تعالى.