التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٨٢
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه اثنتان وخمسون مسألة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } الآية. قال سعيد بن المسيّب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن. وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السّلَم خاصة. معناه أن سَلَم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً. وقال ابن خويزِمنداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما. وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض؛ على ما قال مالك؛ إذْ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دَيْناً مؤجَّلاً؛ ثم يعلم بدلالة أُخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.

الثانية ـ قوله تعالى: { بِدَيْنٍ } تأكيد، مثل قوله { { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38]. { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر: 30 وصۤ: 73]. وحقيقة الدَّيْن عبارة عن كل معاملة كان أحد العِوضين فيها نقداً والآخر في الذّمّة نسيئَةً؛ فإن العَيْن عند العرب ما كان حاضراً، والديْن ما كان غائباً؛ قال الشاعر:

وَعَدتْنا بِدرْهَمَيْنَا طِلاءًوشِواءً معجَّلا غيرَ دَيْنِ

وقال آخر:

لِتَرْمِ بيَ المَنَايَا حيثُ شاءتْإذا لم تَرمِ بي في الحُفْرَتَيْنِ
إذا ما أَوْقَدوا حطباً وناراًفذاك الموتُ نَقْداً غيرَ دَيْنِ

وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق { إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }.

الثالثة ـ قوله تعالى: { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال ابن المنذر: دل قول الله «إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» على أن السَّلَم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودَلَّت سنة رسول الله على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة وهم يستلِفون في الثمار السنتين والثلاث؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في تمرٍ فليسلِف في كيلِ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم" رواه ابن عباس. أخرجه البخاريّ ومسلم وغيرهما. وقال ابن عمر: كان أهل الجاهلية يتبايعون لَحم الجَزُور إلى حَبَل الحَبَلَة. وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نُتِجت. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السّلَم الجائز أن يُسلِم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامّة لا يخطىء مثلها، بكيل معلوم، إلى أجلٍ معلوم بدنانير أو دراهم معلومةٍ، يدفع عن ما أسْلَم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسَميَّا المكان الذي يُقْبَض فيه الطعام. فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر سَلَما صحيحاً لا أعلم أحداً من أهل العلم يبطله.

قلت: وقال علماؤنا: إن السَّلَم إلى الحَصاد والجَذَاذ والنَّيْروز والمِهْرَجَان جائز؛ إذْ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم.

الرابعة ـ حدّ علماؤنا رحمة الله عليهم السَّلَم فقالوا: هو بيع معلومٍ في الذمّة محصورٍ بالصفة بعَيْن حاضرةٍ أو ما هو في حكمها إلى أجلٍ معلوم. فتَقْيِيده بمعلوم في الذمّة يُفِيد التحرّز من المجهول، ومن السَّلَم في الأعيان المعّينة؛ مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدِم عليهم النبيّ عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيلٍ بأعيانها؛ فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغَرَر؛ إذْ قد تُخْلِف تلك الأشجارُ فلا تُثْمِر شيئاً.

وقولهم «مَحْصُور بالصِّفة» تحرّز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل؛ كما لو أسْلَم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبيِّن نوعها ولا صفتها المعينة.

وقولهم «بعَيْن حاضِرَة» تحرّز من الدّيْن بالديْن. وقولهم «أو ما هو في حكمها» تحرّر من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السّلَم إليه، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر، بشرط وبغير شرط لقرب ذلك، ولا يجوز اشتراطه عليها. ولم يُجِز الشافعيّ ولا الكوفيّ تأخير رأس مال السّلَم عن العقد والافتراق، ورأُوا أنه كالصرف. ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما؛ فإن الصرف بابُه ضَيِّق كثُرت فيه الشروط بخلاف السّلَم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. والله أعلم.

وقولهم «إلى أجل معلوم» تحرّز من السّلَم الحالّ فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي. ووصف الأجل بالمعلوم تحرّز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه.

الخامسة ـ السَّلَم والسَّلَف عبارتان عن معنًى واحد وقد جاءا في الحديث؛ غير أن الاسم الخاص بهذا الباب «السَّلَم» لأنّ السَّلَف يقال على القرض. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتِّفاق، مستثنًى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك. وأرخص في السّلّم؛ لأن السّلَم لما كان بيعَ معلوم في الذِّمة كان بيعَ غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين؛ فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبّانها ليُنْفِقَه عليها، فظهر أن بيع السّلَم من المصالح الحاجيّة، وقد سمّاه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالاً بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة. والله أعلم.

السادسة ـ في شروط السّلَم المتفَق عليها والمختلَف فيها وهي تسعة: ستة في المُسْلَم فيه، وثلاثة في رأس مال السَّلَم. أما الستة في المسلم فيه فأن يكون في الذمة، وأن يكون موصوفاً، وأن يكون مقدَّراً، وأن يكون مؤجَّلاً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون موجوداً عند محل الأجل. وأما الثلاثة التي في رأس مال السّلَم فأن يكون معلوم الجنس، مقدراً، نقداً. وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدّم. قال ابن العربيّ: وأمّا الشرط الأوّل وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة؛ لأنه مُدَايَنَة، ولولا ذلك لم يُشرع ديناً ولا قصد الناس إليه ربحاً ورفقاً. وعلى ذلك القول اتفق الناس. بَيْد أنّ مالكاً قال: لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين: أحدهما أن يكون قرية مأمونة، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه. وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل؛ لأن التعيين امتنع في السَّلَم مخافة المُزَابَنَة والغَرَر؛ لئلا يتعَذّر عند المحلّ. وإذا كان الموضع مأموناً لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك؛ إذ لا يُتَيَقَّن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه؛ ولا بدَّ من احتمال الغَرَر اليسير، وذلك كثير في مسائل الفروع، تعدادها في كتب المسائل. وأمّا السَّلَم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مَدَنيَّة اجتمع عليها أهل المدينة، وهي مبنية على قاعدة المصلحة؛ لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مُيَاوَمَة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء؛ لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد؛ لأن الذي عنده عُروضٌ لا يتصرّف له. فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياساً على العَرَايَا وغيرها من أُصول الحاجات والمصالح. وأمّا الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفاً فمتفق عليه، وكذلك الشرط الثالث. والتقدير يكون من ثلاثة أوجه: الكيل، والوزن، والعدد، وذلك يَنْبَني على العُرْف؛ وهو إمّا عرف الناس وإمّا عرف الشرع. وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجّلاً فاختلف فيه، فقال الشافعيّ: يجوز السَّلَم الحالّ، ومنعه الأكثر من العلماء. قال ابن العربيّ: واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردّوه إلى يوم؛ حتى قال بعض علمائنا: السَّلَم الحالّ جائز. والصحيح أنه لا بدّ من الأجل فيه؛ لأن المبيع على ضربين: معَجَّل وهو العين، ومؤجّل. فإن كان حالاً ولم يكن عند المُسْلَم إليه فهو من باب: بيع ما ليس عندك، فلا بدّ من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه، وتتنزل الأحكام الشرعية منازلها. وتحديده عند علمائنا مدّة تختلف الأسواق في مثلها. وقول الله تعالى: { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وقوله عليه السلام: "إلى أجل معلوم" يغني عن قول كل قائل.

قلت ـ الذي أجازه علماؤنا من السَّلَم الحالّ ما تختلف فيه البلدان من الأسعار، فيجوز السّلَم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة. فأمّا في البلد الواحد فلا؛ لأن سعره واحد، والله أعلم. وأمّا الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوماً فلا خلاف فيه بين الأُمة، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك. وانفرد مالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجَذَاذ والحَصاد؛ لأنه رآه معلوماً. وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى: { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } [البقرة: 189]. وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجوداً عند المحل فلا خلاف فيه بين الأُمة أيضاً؛ فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء.

السابعة ـ ليس من شرط السَّلَم أن يكون المُسْلَم إليه مالكاً للمُسْلَم فيه خلافاً لبعض السّلَف، لما رواه البخاري عن محمد بن أبي المُجالِد قال: بعثني عبد الله بن شدّاد وأبو بُرْدَةَ إلى عبد الله بن أبي أوْفَى فقالا: سله هل كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يُسْلفون في الحنطة؟ فقال عبد الله: كنا نُسْلِف نَبِيط أهلِ الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبْزَى فسألته فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُسْلِفون على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا؟. وشرط أبو حنيفة وجود المُسْلَم فيه من حين العقد إلى حين الأجل، مخافةَ أن يُطْلَب المُسْلَم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غَرَراً؛ وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: المُرَاعَى وجوده عند الأجل. وشرط الكوفيون والثوريّ أن يذكر موضع القبض فيما له حملٌ ومؤنة وقالوا: السَّلَم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض. وقال الأوزاعيّ: هو مكروه. وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسُد العقد، ويتعيّن موضع القبض؛ وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث؛ لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السّلَم، ولو كان من شروطه لبيَّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل؛ ومثله حديث ٱبن أبِي أَوْفى.

الثامنة ـ روى أبو داود عن سعد (يعني الطائي) عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسْلف في شيء فلا يَصْرِفْه إلى غيره" . قال أبو محمد عبد الحق بن عطية: هو العَوْفِيّ ولا يحتج أحد بحديثه، وإن كان الأجِلّة قد رَوَوْا عنه. قال مالك: الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجلٍ مسمًّى فحلّ الأجل فلم يجد المُبتاع عند البائع وفاءً مما ابتاعه منه فأقاله، أنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلاّ ورِقَه أو ذِهَبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه، وأنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئاً حتى يقبِضه منه؛ وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى. قال مالك: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.

التاسعة ـ قوله تعالى: { فَٱكْتُبُوهُ } يعني الدّيْن والأجل. ويقال: أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. ويقال: أُمِرنا بالكتابة لكيلا نَنْسى. وروى أبو داود الطيالسيّ في مسنده عن حمّاد بن سَلَمة عن عليّ بن زيد عن يوسف بن مِهْران عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } إلى آخر الآية: إن أوّل من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذرّيته فرأى رجلاً أزهر ساطعاً نورُه فقال يا ربّ مَنْ هذا قال هذا ابنك داود قال يا رب فما عمره قال ستون سنة قال يا رب زده في عمره فقال لا إلا أن تزيده من عمرك قال وما عُمري قال ألف سنة قال آدم فقد وهبتُ له أربعين سنة قال فكتب الله عليه كتاباً وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة قال إنه بقي من عمري أربعون سنة قالوا إنك قد وهبتها لابنك داود قال ما وهبت لأحد شيئاً قال فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته ـ في رواية: وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة" . خرّجه الترمذيّ أيضاً. وفي قوله { فَٱكْتُبُوهُ } إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبيِّنة له المُعْرِبة عنه؛ للاختلاف المتوهَّم بين المتعاملين، المعرِّفةِ للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه. والله أعلم.

العاشرة ـ ذهب بعض الناس إلى أن كتْب الديون واجبٌ على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعا كان أو قرضاً؛ لئلا يقع فيه نسيان أو جُحود، وهو اختيار الطبريّ. وقال ابن جُريج: مَن أدّان فليكتب، ومَن باع فليُشهِد. وقال الشعبيّ: كانوا يَرَوْن أن «قوله فَإنْ أَمِنَ» ناسخ لأمره بالكتْب. وحكى نحوه ابن جُرَيج، وقاله ابن زيد، وروى عن أبي سعيد الخدرِي. وذهب الرَّبيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خفّفَه الله تعالى بقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً }. وقال الجمهور: الأمر بالكتْب ندبٌ إلى حفظ الأموال وإزالة الرّيب، وإذا كان الغريمُ تَقِيّاً فما يضرّه الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقَافٌ في دينه وحاجّة صاحب الحق. قال بعضهم: إن أشهدت فحزُمٌ، وإن ائتَمَنْت ففي حِلٍّ وسَعةٍ. ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخٌ في هذا؛ لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبَه ويتركه بإجماع، فندْبُه إنما هو على جهة الحَيْطة للناس.

الحادية عشرة ـ قوله تعالى: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب؛ وقاله الشعبيّ، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب. السدي: واجب مع الفَرَاغ. وحُذفت اللام من الأوّل وأُثبتت في الثاني؛ لأن الثاني غائب والأوّل للمخاطَب. وقد ثبتت في المخاطب؛ ومنه قوله تعالى: { فَلْيَفْرَحُواْ } } [يونس: 58] بالتاء. وتحذف في الغائب؛ ومنه:

محمدُ تفدِ نفسَك كلُّ نَفْسٍإذا ما خِفْتَ من شيء تَبَالا

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { بِٱلْعَدْلِ } أي بالحق والمعدلة، أي لا يُكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقلّ. وإنما قال «بَيْنَكُمْ» ولم يقل أحدكم؛ لأنه لما كان الذي له الديْن يَتَّهِم في الكتابة الذي عليه الديْن وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتباً غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمهُ موَادَّةٌ لأحدهما على الآخر. وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذّ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتبٌ بالعدل.

الثالثة عشرة ـ الباء في قوله تعالى { بِٱلْعَدْلِ } متعلقة بقوله: «وَلْيَكْتُبْ» وليست متعلقة بـ «كَاتِبٌ» لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبيّ والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها. أما المنتصبون لكتْبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين. قال مالكرحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارفٌ بها عدل في نفسه مأمون؛ لقوله تعالى: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ }.

قلت: فالباء على هذا متعلقة بـ «كاتب» أي ليكتب بينكم كاتب عدل؛ فـ «بالعدل» في موضع الصفة.

الرابعة عشرة ـ قوله تعالى: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ } نهى الله الكاتب عن الإباء.

واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد؛ فقال الطبري والربيع: واجب على الكاتب إذا أُمِر أن يكتب. وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يُقْدر على كاتب غيره، فيضر صاحب الدين إن امتنع؛ فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قُدِر على كاتبٍ غيره فهو في سَعَة إذا قام به غيره. السدّي: واجب عليه في حال فراغه، وقد تقدّم. وحكى المهدويّ عن الربيع والضحاك أنّ قوله { يَأْبَ } منسوخٌ بقوله { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }.

قلت: هذا يتمشّى على قول من رأى أو ظَنّ أنه قد كان وَجَب في الأوّل على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى: { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } وهذا بعيدٌ، فإنه لم يثبت وجوبُ ذلك على كل من أراده المتبايعان كائناً من كان. ولو كانت الكتابة واجبة ما صحّ الاستئجار بها؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأُجرة على كتْب الوثيقة. ابن العربيّ: والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه. وأبَى يَأْبَى شاذٌّ، ولم يجىء إلا قَلَى يَقْلَى وأبَى يَأْبَى وَغَسَى يَغْسَى وجَبَى الخراج يَجْبَي، وقد تقدّم.

الخامسة عشرة ـ قوله تعالى: { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } الكاف في «كما» متعلقة بقوله { أَنْ يَكْتُبَ } المعنى كتبا كما علمه الله. ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله «وَلاَ يَأبَ» من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يَأْبَ هو وليُفْضِل كما أفضل الله عليه. ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاماً عند قوله { أَنْ يَكْتُبَ } ثم يكون { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله { فَلْيَكْتُبْ }.

السادسة عشرة ـ قوله تعالى: { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } وهو المديون المطلوب يُقِرّ على نفسه بلسانه ليُعلم ما عليه. والإملاء والإملال لغتان، أمَلّ وأمْلَى؛ فأمَلّ لغة أهل الحجاز وبنى أسد، وتميم تقول: أَمْلَيْت. وجاء القرآن باللغتين؛ قال عز وجل: { { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفرقان: 5]. والأصل أَمْلَلْتُ، أُبدل من اللام ياء لأنه أخفّ. فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإمْلاَء؛ لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره. وأمره تعالى بالتقوى فيما يُمِلّ، ونهى عن أن يبخَس شيئاً من الحق. والبخس النقص. ومن هذا المعنى قوله تعالى: { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ } } [البقرة: 228].

السابعة عشرة ـ قوله تعالى: { فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً } قال بعض الناس: أي صغيراً. وهو خطأ فإنّ السفيه قد يكون كبيراً على ما يأتي بيانه. { أَوْ ضَعِيفاً } أي كبيراً لا عقل له. { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ } جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف: مستقل بنفسه يُمِلّ، وثلاثة أصناف لا يُمِلُّون وتقع نوازلهم في كل زَمَن، وكون الحقّ يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قُسِمَت وغير ذلك، وهم السَّفِيهُ والضّعيفُ والذي لا يستطيع أن يُمِلّ. فالسفيه المُهَلْهَلُ الرأي في المال الذي لا يُحسن الأخذَ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشَبّه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. والبَذِيء اللسانِ يسمّى سفيهاً؛ لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلاّ في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة. والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أُخرى؛ قال الشاعر:

نَخافُ أن تَسْفَهَ أحلامُناويجهل الدهرُ مع الحالِم

وقال ذو الرُّمّة:

مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رِماحٌ تَسَفَّهَتْأعالِيهَا مَرُّ الرياحِ النّواسِمِ

أي استضعفها واستلانها فحرّكها. وقد قالوا: الضُّعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي، وقيل: هما لغتان. والأوّل أصح، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك "أنّ رجلاً على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقله ضَعْفٌ فأتى أهله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبيّ الله، أُحْجُرْ على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف. فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع؛ فقال: يا رسول الله، إني لا أصبر عن البيع ساعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت غير تاركٍ البيع فقل هَاوهَا ولا خِلاَبَة" . وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلميّ الترمذيّ من حديث أنس وقال: هو صحيح، وقال: إن رجلاً كان في عقله ضعف؛ وذكر الحديث. وذكره البخاريّ في التاريخ وقال فيه: "إذا بايعت فقل لا خِلابة وأنت في كل سِلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال" . وهذا الرجل هو حَبّان بن مُنْقِذ بن عمرو الأنصاريّ والد يحيى وواسع ابني حَبّان: وقيل: هو منقذ جدُّ يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حَبان، أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شُجّ في بعض مَغازيه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مَأْمُومَةً خُبِل منها عقلُه ولسانه: وروى الدّارقطنِيّ قال: "كان حَبان بن منقذ رجلاً ضعيفاً ضرير البصر وكان قد سُفِع في رأسه مأمومةً، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار فيما يشتري ثلاثة أيام، وكان قد ثَقُل لسانُه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِعْ وقُلْ لا خِلاَبةَ" فكنت أسمعه يقول: لا خِذَابةَ لا خِذَابةَ. أخرجه من حديث ابن عمر الخِلابة: الخديعة؛ ومنه قولهم: «إذا لم تَغلِبْ فاخْلُبْ».

الثامنة عشر ـ اختلف العلماء فيمن يُخدَع في البيوع لقلّة خِبرتهِ وضعَف عقله فهل يحجر عليه أولاً؛ فقال بالحجر عليه أحمد وإسحاق. وقال آخرون: لا يحجر عليه. والقولان في المذهب، والصحيح الأول؛ لهذه الآية، ولقوله في الحديث: يا نبيّ الله أحجر على فُلان. وإنما ترك الحجر عليه لقوله: «يا نبيّ الله إني لا أصبر عن البيع» فأباح له البيع وجعله خاصاً به؛ لأن من يُخْدَع في البيوع ينبغي أن يُحْجَر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخَبَل عقله. ومما يدل على الخصوصية ما رواه محمد بن إسحاق قال: (حدثني محمد بن يحيى بن حَبان قال: هو جدي مِنقذ بن عمرو وكان رجلاً قد أصابته آمةٌ في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يُغْبن، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فقال: "إذا بِعْتَ فقل لا خِلابة ثم أنت في كل سِلْعَة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضِيت فأمسِك وإن سَخِطت فآردُدُها على صاحبها" . وقد كان عَمَّر عمرا طويلاً، عاش ثلاثين ومائة سنة، وكان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين فشا الناس وكثروا، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غُبِن غَبْنا قبيحا، فيلومونه ويقولون له تبتاع؟ فيقول: أنا بالخيار، إن رضِيتُ أخذتُ وإن سَخِطْتُ رددتُ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثا. فيردّ السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد، فيقول: والله لا أقْبَلُها قد أخذت سلعتي وأعطيتنَي دراهم؛ قال فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثاً وكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للتاجر: ويحك! إنه قد صدق؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثا) أخرجه الدارقطني. وذكره أبو عمر في الإستيعاب وقال: ذكره البخاري في التاريخ عن عَيّاش بن الوليد عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق.

التاسعة عشر ـ قوله تعالى: { أَوْ ضَعِيفاً } الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفِطرة العاجز عن الإملاء، إمّا لعَيَّه أو لخَرَسه أو جهله بأداء الكلام، وهذا أيضاً قد يكون وليُّهُ أباً أو وصياً. والذي لا يستطيع أن يُمِلّ هو الصغير، ووليّه وصيه أو أبوه والغائبُ عن موضع الإشهاد، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، ووليه وكيلهُ. وأما الأخَرْس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع. فهذه أصناف تتميز؛ وسيأتي في «النساء» بيانها والكلام عليها إن شاء الله تعالى.

الموفية عشرين قوله تعالى: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } ذهب الطبري إلى أن الضمير في { وَلِيُّهُ } عائد على «الْحَقُّ» وأسند في ذلك عن الربيع، وعن ابن عباس. وقيل: هو عائد على { ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً } وهو الصحيح. وما روي عن ابن عباس لا يصح. وكيف تشهد البيِّنة على شيء وتُدخل مالا في ذمّة السفيه بإملاء الذي له الدَّيْن! هذا شيء ليس في الشريعة. إلا أن يريد قائله: إن الذي لا يستطيع أن يُمِلّ لمرض أو كبر سنّ لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرَس ولىّ عند أحد العلماء، مثل ما ثبت على الصبيّ والسفيه عند من يحجر عليه. فإذا كان كذلك فليُمِلّ صاحب الحق بالعدل ويُسمع الذي عجز، فإذا كمل الإمْلاءُ أقرّبه. وهذا معنىّ لم تَعْن الآَية إليه: ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يُمِلّ لمرض ومن ذكر معه.

الحادية والعشرون ـ لما قال الله تعالى: { فَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } دل ذلك على أنه مُؤْتَمَنُ فيما يُورده ويُصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدّين والرهنُ قائمٌ، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدّعى مائة، فالقول قول الراهن والرهن قائم، وهو مذهب أكثر الفقهاء: سفيان الثورىّ والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، واختاره ابن المنذر قال: لأن المرتهن مدّعٍ للفضل، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البينة على المُدّعي واليمينُ على المدّعى عليه" . وقال مالك: القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يُصدَّق على أكثر من ذلك. فكأنه يرى أنّ الرهن ويمينَهُ شاهد للمرتهن؛ وقوله تعالى { فَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } ردُّ عليه. فإن الذي عليه الحق هو الراهن. وستأتي هذه المسألة. وإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلاً عن الشهادة والكتابِ، والشهادة دالّة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة. قيل له: الرهن يدلّ على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدَّين، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير. نعم لا ينقص الرهن غالباً عن مقدار الدين، فأمّا أن يطابقه فلا. وهذا القائل يقول: يُصدَّق المرتهنُ مع اليمين في مقدار الدّيْن إلى أن يساوي قيمة الرهن. وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب، فلا حاصل لقولهم هذا.

الثانية والعشرون ـ وإذا ثبت أن المراد الوليُّ ففيه دليلٌ على أن إقراره جائز على يتيمه؛ لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه.

الثالثة والعشرون ـ وتصرُّف السفيه المحجور عليه دون إذن وليِّه فاسدٌ إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثِّر شيئاً. فإن تصرَّف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف يأتي بيانه في «النساء» إن شاء الله تعالى.

الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } الاستشهاد طلب الشهادة. واختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى ـ: { شَهِيدَيْنِ } رتّب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فَنٍّ شهيدين إلا في الزِّنَا، على ما يأتي بيانه في سورة «النساء». وشهيدٌ بناءُ مبالغة؛ وفي ذلك دلالةٌ على من شهد وتكرر ذلك منه، فكأنه إشارة إلى العدالة. والله أعلم.

السادسة والعشرون ـ قوله تعالى: { مِّن رِّجَالِكُمْ } نَصُّ في رَفضْ الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. وقال مجاهد: المراد الأحرار، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطْنَب فيه. وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد، فقال شُريح وعثمان البَتِّى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً؛ وغلَّبوا لفظ الآَية. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد؛ وغلَّبوا نقص الرق، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. والصحيح قول الجمهور؛ لأن الله تعالى قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } وساق الخطاب إلى قوله: { مِّن رِّجَالِكُمْ } فظاهر الخطاب يتناول الذي يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذْن السّادة. فإن قالوا: إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعُموم آخره. قيل لهم: هذا يخصُّه قوله تعالى: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } على ما يأتي بيانه. وقوله { مِّن رِّجَالِكُمْ } دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة، لكن إذا علم يقيناً؛ مثل ما روي عن ابن عباس قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: ترى هذه الشمس فاشهد على مِثلها أو دع" . وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطىء. نعم يجوز له وَطْءُ امرأته إذا عرف صوتها؛ لأن الإقدام على الوطءِ جائز بغلبة الظن؛ فلو زُفّت إليه امرأة وقيل: هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول. ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذْف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه؛ لأن سبيل الشهادة اليقين، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن؛ ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى؛ ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه. فهذا مذهب هؤلاء. والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمّل بصيراً لا وجه له، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من قبِل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت؛ لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حدّ اليقين، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصّوَر والألوان. وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.

قلت: مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت. قال ابن قاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه، يسمعه يطلق ٱمرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت؟ قال قال مالك: شهادته جائزة. وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشُرَيح الكندي والشَّعْبي وعطاء بن أبي رَبَاح ويحي بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث.

السابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين؛ هذا قول الجمهور. «فَرَجُلٌ» رفع بالابتداء، { وَٱمْرَأَتَانِ } عطف عليه والخبر محذوف. أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما. ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلاً وامرأتين. وحكى سيبويه: إنْ خنجراً فخنجراً. وقال قوم: بل المعنى فإن لم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذرٍ مّا فليستشهد رجلاً وامرأتين. فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل. وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثر الله أسباب تَوْثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلْوَى بها وتكررها؛ فجعل فيها التَوثُّق تارة بالكتْبَة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال. ولا يتوهّم عاقل أن قوله تعالى { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } يشتمل على دَيْن المهر مع البُضْع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدَّيْن، بل هي شهادة على النكاح. وأجاز العلماء شهادتهنّ منفردات فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ للضرورة. وعلى مثل ذلك أُجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة.

وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح وهي:

الثامنة والعشرن ـ فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا. ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير. وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبدالله بن الزبير. وقال مالك: وهو الأمر عندنا المجتمع عليه. ولم يجز الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم؛ لقوله تعالى { مِّن رِّجَالِكُمْ } وقوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ } وقوله { ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } } [المائدة: 95] وهذه الصفات ليست في الصبيّ.

التاسعة والعشرون ـ لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه؛ فكما لَهُ أن يحلف مع الشاهد عندنا، وعند الشافعي كذلك، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمُطْلق هذه العِوَضيّة. وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليَمِين مع الشاهد وقالوا: إن الله سبحانه قسم الشهادة وعدّدها، ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء به؛ لأنه يكون قسماً زائداً على ما قسمه الله، وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ. وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة. قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن. وزعم عطاء أن أوّل مَن قضى به عبدالملك بن مروان، وقال: الحَكَم: القضاء باليمين والشاهد بِدعةٌ، وأوّل من حكم به معاوية. وهذا كله غلط وظنّ لا يغني من الحق شيئاً، وليس مَن نَفَى وجهل كمن أثبت وعلِم! وليس في قول الله تعالى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } الآية، ما يُردُّ به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد؛ ولا أنه لا يُتوصّل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب، فإن ذلك يستحق به المال إجماعاً وليس في كتاب الله تعالى، وهذا قاطع في الرد عليهم. قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يُقال له: أرأيت لو أن رجلاً ٱدعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نَكَل عن اليمين حلف صاحب الحق، أن حقّه لحقُّ، وثبت حقه على صاحبه. فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده؟ فمن أقرّ بهذا فليُقِرَّ باليمين مع الشاهد. قال علماؤنا: ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بَدَّعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشُريح وعمر بن عبدالعزيز ـ وكتب به إلى عماله ـ وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزِّناد وربيعة؛ ولذلك قال مالك: وإنه ليكفي من ذلك ما مضى مِن عَمَل السنّة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم! هذا إغفال شديد، ونظر غير سديد. روى الأئمة عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو بن دينار: في الأموال خاصة؛ رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ٱبن عباس. قال أبو عمرو: هذا أصح إسناد لهذا الحديث، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات. قال يحيى القَطّان: سيف بن سليمان ثَبْتُ، ما رأيت أحفظ منه. وقال النسائي: هذا إسناد جَيِّد، سيفْ ثقة، وقيس ثقة. وقد خرّج مسلم حديث ابن عباس هذا. قال أبو بكر البزار: سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان، ومنَ بعدهما يُستغنَى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة. ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد، بل جاء عنهم القول به، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة. واختلف فيه عن عُروة بن الزبير وابن شهاب؛ فقال مَعْمَر: سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال؛ هذا شيء أحدثه الناس، لا بدّ من شاهديْن. وقد روى عنه أنه أوّل ما وَلي القضاء حكم بشاهد ويمين؛ وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن عليّ وجماعة أهل الأثر، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه، لتواتر الآثار به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قَرْناً بعد قرن. وقال مالك: يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان، ولم يحتّج في موطّئه لمسألة غيرها. ولم يُخْتَلَف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ومصر وغيرهما، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس؛ فإن يحيـى (بن يحيـى) زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه. وخالف يحيي مالكا في ذلك مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة. ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كنَهْيِه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24] وكنهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مع قوله: { { قُل لاَّ أَجِدُ } [الأنعام: 145 والتوبة: 92] وكالمسح على الخفّيْن، والقرآن إنما ورد بغسل الرِّجلين أو مسحهما؛ ومثل هذا كثير. ولو جاز أن يقال: إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد، لجاز أن يقال؛ إن القرآن في قوله عز وجل: { { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَا } [البقرة: 275] وفي قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [النساء: 29] ناسخ لنهيه عن المُزَابَنَة وبيع الغَرَر وبيع مالم يُخْلَق، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع، وهذا لا يسوغ لأحد؛ لأن السنة مبيِّنة للكتاب. فإن قيل: إنّ ما ورد من الحديث قضية في عَيْن فلا عموم. قلنا: بل ذلك عبارةٌ عن تقْعيد هذه القاعدة؛ فكأنه قال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد. ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى بشاهد ويمين في الحقوق، ومن جهة القياس والنظر أنا وجدنا اليمين أقوى من المرأتين، لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين واليمين تدخل في اللعان. وإذا صحّت السنة فالقول بها يجب، ولا تحتاج السنة إلى ما يتابعها؛ لأن من خالفها محجوج بها. وبالله التوفيق.

الموفية ثلاثين ـ وإذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد، فقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان؛ للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد. قال: لأنَّ حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان؛ بدليل قبول شهادة النساء فيها. وقد اختلف قول مالك في جِراح العمد، هل يجب القَوَد فيها بالشاهد واليمين؟ فيه روايتان: إحداهما أنه يجب به التخيير بين القَوَد والدّيّة. والأُخرى أنه لا يجب به شيء؛ لأنه من حقوق الأبدان. قال: وهو الصحيح. قال مالك في الموطأ: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة؛ وقاله عمرو ابن دينار. وقال المازري: يقبل في المال الَمحْض من غير خلاف، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة ما ليس بمال، ولكنه يؤدي إلى المال، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك، ففي قبوله اختلاف؛ فمن راعَى المال قَبِله كما يقبله في المال، ومن راعى الحال لم يقبله. وقال المهدويّ: شهادة النساء في الحدود غير جائزة في قول عامّة الفقهاء، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء؛ وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما؛ وإنما يشهَدنَ في الأموال. وكل ما لا يشهدْنَ فيه فلا يشهَدّنَ على شهادة غيرهنّ فيه، كان معهنّ رجل أو لم يكن، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل وامرأة. ويُقضَى بأثنتيْن منهنّ في كل ما لا يحضره غيرهنّ كالوِلادة والاسْتِهْلال ونحو ذلك. هذا كله مذهب مالك، وفي بعضه اختلاف.

الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين. قال ابن بُكيَر وغيره: هذه مخاطبة للحكّام. ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المُتَلَبِّسِ بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعمّ الخطاب فيما يتلبس به البعض.

الثانية والثلاثون ـ لما قال الله تعالى: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } دل على أن في الشهود من لا يُرْضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنىً زائدٌ على الإسلام؛ وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فِسْق ظاهر فهو عَدْلٌ وإن كان مجهول الحال. وقال شُرَيح وعثمان الَبتِّى وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيداً.

قلت: فعمَّمُوا الحكم؛ ويلزم منه قبول شهادة البَدَوي على الَقَروي إذا كان عدلاً مرضياً وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو من رجالنا وأهل ديننا. وكونهُ بدَوِياً ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوِّي بين الَبَدوِي والقَرَوِي؛ قال الله تعالى: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } وقال تعالى: { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } } [الطلاق: 2] فـ «منكم » خطاب للمسلمين. وهذا يقتضي قطعاً أن يكون معنى العدالة زائداً على الإسلام ضرورةً؛ لأن الصفة زائدة على الموصوف، وكذلك { مِمَّن تَرْضَوْنَ } مثلهُ، خلاف ما قال أبو حنيفة، ثم لا يعلم كونه مرضياً حتى يُخْتَبر حاله، فيلزمه ألا يكتفى بظاهر الإسلام. وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى ردّ شهادة البَدَوي على القَرَوي لحديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجوز شهادة بَدَوي على صاحب قرية" والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضياً، على ما يأتي بيانه في «النساء» و «براءة» إن شاء الله تعالى. وليس في حديث أبي هريرة فرق بين القَرَوي في الحضر أو السفر، ومتى كان في السفر فلا خلاف في ( قبوله).

قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتمّ بأن يكون مجتنباً للكبائر محافظاً على مروءته وعلى ترك الصغائر، ظاهر الأمانة غير مُغفَّل. وقيل صفاء السريرة وٱستقامة السِّيرة في ظن المعدِّل، والمعنى متقارب.

الثالثة والثلاثون ـ لما كانت الشهادة ولايةً عظيمة ومرتبة منيفة، وهي قبول قول الغير على الغير، شرط تعالى فيها الرِّضا والعدالة. فمن حكم الشاهد أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلّى بها حتى تكون له مزيةٌ على غيره، توجب له تلك المزيةُ رتبة الاختصاص بقبول قوله، ويُحْكَم بشغل ذِمِّة المطلوب بشهادته. وهذا أدلَّ دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام. وسيأتي لهذا في سورة «يوسف» زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام؛ فربما تفرّسَ في الشاهد غفلةً أو ريبَة فيردّ شهادته لذلك.

الرابعة والثلاثون ـ قال أبو حنيفة: يُكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود. وهذه مناقضة تُسقط كلامه وتُفسد عليه مرامه؛ لأننا نقول: حقٌّ من الحقوق. فلا يُكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود؛ قاله ابن العربي.

الخامسة والثلاثون ـ وإذْ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينّا فاشتراطها في النكاح أوْلَى، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: إن النكاح ينعقد بشهادة فاسقين. فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح، وهو أولى لما يتعلق به من الحلِّ والحُرْمَة والحدّ والنسب.

قلت: قول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جداً؛ لشرط الله تعالىٰ الرضا والعدالة، وليس يعلم كونه مرضياً بمجرد الإسلام، وإنما يعلم بالنظر في أحواله حسب ما تقدّم. ولا يغترّ بظاهر قوله: أنا مسلم. فربما انطوى على ما يوجب ردّ شهادته؛ مثل قوله تعالىٰ: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ } إلى قوله { { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } } [البقرة: 204]. وقال: { { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } } [المنافقون: 4] الآية.

السادسة والثلاثون ـ قوله تعالىٰ: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } قال أبو عبيد: معنى تَضِلّ تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نِسْيَان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حَيْران بين ذلك ضَالاًّ. ومن نسي الشهادة جُمْلةً فليس يُقال: ضل فيها. وقرأ حمزة «إن» بكسر الهمزة على معنى الجزاء، والفاء في قوله «فَتُذَكِّرُ» جوابه، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل، وارتفع «تُذَكِّرُ» على الإستئناف؛ كما ارتفع قوله { { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [المائدة: 95] هذا قول سيبويه. ومن فتح «أن» فهي مفعول له والعامل (فيها) محذوف. وانتصب «فَتُذَكِّرَ» على قراءة الجماعة عطفاً على الفعل المنصوب بأن. قال النحاس؛ ويجوز «تَضَلّ» بفتح التاء والضاد، ويجوز تِضَلّ بكسر التاء وفتح الضاد. فمن قال: «تضل» جاء به على لغة من قال: ضَلِلْتَ تَضَل. وعلى هذا تقول تِضَل فتكسر التاء لتدلَّ على أن الماضي فَعِلت. وقرأ الجحدريّ وعيسىٰ بن عمر «أَنْ تُضَلّ» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تُنسىٰ، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الدانيّ. وحكى النقّاش عن الجْحَدرِيّ ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تُضِلّ الشهادة. تقول: أضْلَلْتُ الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما.

السابعة والثلاثون ـ قوله تعالىٰ: { فَتُذَكِّرَ } خفّف الذال والكاف ابن كثِير وأبو عمرو؛ وعليه فيكون المعنى أن تَرُدّها ذَكَراً في الشهادة؛ لأن شهادة المرأة نصفُ شهادة؛ فإذا شهِدتا صار مجموعهما كشهادة ذَكَرٍ؛ قال سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء. وفيه بعدٌ؛ إذْ لا يحصل في مقابلة الضَّلال الذي معناه النسيان إلاَّ الذِّكْر، وهو معنى قراءة الجماعة «فَتُذَكِّرَ» بالتشديد، أي تنبِّهها إذا غَفلت ونَسِيت.

قلت: وإليها ترجع قراءة أبي عمرو، أي إنْ تَنسَ إحداهما فتُذْكِرُها الأُخْرَىٰ؛ يُقال: تذَكَّرت الشيء وأذْكَرْتُه غيرِي وذَكَّرْتُه بمعنىً؛ قاله في الصحاح.

الثامنة والثلاثون ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألاّ تأبَى إذا دُعِيتَ إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دُعِيت إلى أدائها؛ وقاله ابن عباس. وقال قتادة والربيع وابن عباس: أي لِتَحَمُّلها وإثباتها في الكتاب. وقال مجاهد: معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك. وأسند النقاش إلى النبي النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسّر الآية بهذا؛ قال مجاهد: فأما إذا دُعِيت لتشهد أوّلاً فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا؛ وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم. وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود؛ فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تُراد بقوله تعالىٰ: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضروهما عند الحاكم، على ما يأتي. وقال ابن عطية: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب؛ فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعوّ مَنْدُوب، وله أن يتَخَلَّف لأدنى عُذْر، وإن تخلق لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة وخِيفَ تعطل الحق أدنىٰ خوف قوِي النَّدب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيّما إن كانت مُحَصَّلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد؛ لأنها قِلادة في العُنق وأمانة تقتضي الأداء.

قلت: وقد يستلوح من هذه الآية دليلٌ على أن جائزاً للإمام أن يُقيم للناس شهوداً ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلاَّ تحمل حقوق الناس حفظاً لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبَطَلت. فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم. فإن قيل: هذه شهادة بالأُجرة؛ قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والوُلاة وجميع المصالح التي تَعِنَّ للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم. وقد قال تعالىٰ: { وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } [التوبة: 60] ففرض لهم.

التاسعة والثلاثون ـ لما قال تعالىٰ: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } دلّ على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم، وهذا أمر بُنِي عليه الشرع وعُمِل به في كل زمان وفهمته كل أُمة، ومن أمثالهم: «فِي بَيْتِهِ يُؤتَى الحَكَمُ».

الموفية أربعين ـ وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء، وهو يخص عموم قوله: { مِّن رِّجَالِكُمْ } لأنه لا يمكنه أن يجيب، ولا يصح له أن يأتي؛ لأنه لا استقلال له بنفسه، وإنما يَتَصَرَّف بإذن غيره، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية. نعم! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالىٰ.

الحادية والأربعون ـ قال علماؤنا: هذا في حال الدعاء إلى الشهادة. فأمّا من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقُّها الذي ينتفع بها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله تعالىٰ: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } ففرض الله الأداء عند الدعاء؛ فإذا لم يُدْع كان ندباً؛ لقوله عليه السَّلام: "خير الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة. والصحيح أن أداءها فرض وإن لم يُسْألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك؛ فيجب على من تحمل شيئاً من ذلك أداءُ تلك الشهادة، ولا يَقِف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق؛ وقد قال تعالىٰ: { { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2] وقال: { { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } } [الزخرف: 86]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" . فقد تعيّن عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياءً لحقه الذي أماته الإنكار.

الثانية والأربعون ـ لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادةٌ على أحَدِ الأوْجُه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جُرحة في الشاهد والشهادة؛ ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالىٰ وحقوق الآدميّين؛ هذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جُرحةً في تلك الشهادة نفسها خاصةً، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك. والصحيح الأوّل؛ لأن الذي يوجب جرحته إنما هو فسقُه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر، والفسق يسلب أهليّة الشهادة مطلقاً، وهذا واضح.

الثالثة والأربعون ـ لا تَعارُض بين قوله عليه السَّلام: "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها" وبين قوله عليه السَّلام في حديث عِمران بن حصين: "إنّ خيركم قرنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ـ ثم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ـ ثم يكون بعدهم قوم يَشَهدون ولا يُستشْهَدون ويخونون ولا يُؤتَمنون ويَنْذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السَّمَن" أخرجهما الصحيحان. وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه: أحدها أن يُراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يَتحمَّله ولا حُمِّلَهُ. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بباب الجابية فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كمقامي فيكم ثم قال: "يأيها الناس ٱتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور" . الوجه الثاني أن يُراد به الذي يحمله الشّرَه على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يُسألها؛ فهذه شهادة مردودةٌ؛ فإن ذلك يدل على هَوًى غالب على الشاهد. الثالث ما قاله إبراهيم النخعِي راوى طرق بعض هذا الحديث: كَانوا يَنْهَوْنَنا ونحن غلمان عن العهد والشهادات.

الرابعة والأربعون ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ } { تَسْأَمُوۤاْ } معناه تَمَلُّوا. قال الأخفش: يُقال سَئِمْتُ أَسْأْمُ سَأْماً وَسَآمَةً وَسَآماً (وَسَأْمَةً) وسَأَماً؛ كما قال الشاعر:

سَئِمتُ تَكالِيفَ الحياةِ وَمَن يَعِشْثمانين حَوْلاً ـ لا أبالك ـ يَسْأَمِ

{ أَن تَكْتُبُوهُ } في موضع نصب بالفعل. { صَغِيراً أَو كَبِيراً } حالان من الضمير في { تَكْتُبُوهُ } وقدّم الصغير اهتماماً به. وهذا النهي عن السآمة إنما جاء لتردّد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يَملُّوا الكَتْب، ويقول أحدهم: هذا قليل لا أحتاج إلى كَتْبِهِ؛ فأكّد تعالىٰ التحضيض في القليل والكثير. قال علماؤنا: إلاَّ ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوّف النفس إليه إقراراً وإنكاراً.

الخامسة والأربعون ـ قوله تعالىٰ: { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } معناه أعدل، يعني أن يُكْتَب القليل والكثِير ويُشْهَد عليه. { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } أي أصح وأحفظ. { وَأَدْنَىٰ } معناه أقرب. و { تَرْتَابُوۤاْ } تَشكُّوا.

السادسة والأربعون ـ قوله تعالىٰ: { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة لا يؤدّيها لما دخل عليه من الريبة فيها، ولا يؤدّي إلاَّ ما يعلم، لكنه يقول: هذا خطِّي ولا أذكر الآن ما كتبتُ فيه. قال ابن المنذر: أكثر مَن يُحْفَظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة. واحتجّ مالك على جواز ذلك بقوله تعالىٰ: { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [يوسف: 81]. وقال بعض العلماء: لمّا نسب الله تعالىٰ الكتابة إلى العدالة وَسِعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكّر. ذكر ابن المبارك عن مَعْمَر عن ابن طاوُس عن أبيه في الرجل يشهد على شهادةٍ فينساها قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامتَه في الصَّكّ أو خطّ يده. قال ابن المبارك: استحسنتُ هذا جدّاً. وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، وعن الرسل من قبله ما يدلّ على صحة هذا المذهب. والله أعلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في «الأحقاف» إن شاء الله تعالىٰ.

السابعة والأربعون ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } «أن» في موضع نصب استثناءً ليس من الأوّل. قال الأخفش (أبو سعيد): أي إلاَّ أن تقع تجارة، فكان بمعنى وقع وحدث. وقال غيره: { تُدِيرُونَهَا } الخبر. وقرأ عاصم وحده { تِجَارَةً } على خبر كان واسما مضمر فيها. { حَاضِرَةً } نعت لتجارة، والتقدير إلاَّ أن تكون التجارةُ تجارةً، أو إلاَّ أن تكون المبايعةُ تجارةً؛ هكذا قدّره مكّي وأبو عليّ الفارسيّ؛ وقد تقدّم نظائره والإستشهاد عليه. ولمّا علم الله تعالىٰ مشقة الكتاب عليهم نصّ على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السّدِّيّ والضّحاك: هذا فيما كان يداً بيد.

الثامنة والأربعون ـ قوله تعالىٰ: { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض. ولمّا كانت الرِّباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، حَسُن الكَتْبُ فيها ولحقت في ذلك مبايعة الدَّين؛ فكان الكتاب توثُّقاً لِما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغيُّر القلوب. فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاع من صاحبه، فيقلّ في العادة خوف التنازع إلاَّ بأسباب غامضة. ونبّه الشرع على هذ المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب، بالكتاب والشهادة والرهن. قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برِهان، وبيع بأمانة؛ وقرأ هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب.

التاسعة والأربعون ـ قوله تعالىٰ: { وَأَشْهِدُوۤاْ } قال الطبريّ: معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره. واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو الندب؛ فقال أبو موسىٰ الأشعري وابن عمر والضحّاك وسعيد بن المسيِّب وجابر ابن زيد ومجاهد وداود بن عليّ وابنه أبو بكر: هو على الوجوب؛ ومِن أشدِّهم في ذلك عطاء قال: أشْهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم أو أقلّ من ذلك؛ فإن الله عزّ وجلّ يقول: { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ }. وعن إبراهيم قال: أشْهدْ إذا بعتَ وإذا اشتريت ولو دَسْتَجَة بَقَلْ. وممن كان يذهب إلى هذا ويرجّحه الطبريّ، وقال: لا يحلّ لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلاَّ أن يُشْهد، وإلاَّ كان مخالفاً كتاب الله عزّ وجلّ، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتُب ويُشْهد إن وجد كاتباً. وذهب الشّعبي والحسن إلى أن ذلك على النّدْب والإرشاد لا على الحَتْم. ويُحكى أن هذا قول مالك والشافعيّ وأصحاب الرأي. وزعم ابن العربيّ أن هذا قول الكافّة، قال: وهو الصحيح. ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلاَّ الضحاك. قال وقد باع النبيّ صلى الله عليه وسلم وكتَب. قال: ونسخة كتابه: «بسم الله الرّحمٰن الرّحيم. هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبداً ـ أو أمة ـ لا داءَ ولا غائِلَةَ ولا خِبّثَة بيعَ المسلم المسلم». وقد باع ولم يُشهد، واشترى ورَهَن دِرعَه عند يهوديّ ولم يُشهد. ولو كان الإشهاد أمراً واجباً لوجب مع الرهن لخوف المنازعة.

قلت: قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك. وحديث العدّاء هذا أخرجه الدّارقطنيّ وأبو داود. وكان إسلامه بعد الفتح وحُنَين، وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَيْن فلم يُظهِرنا الله ولم ينصرنا، ثم أسلم فحسن إسلامه. ذكره أبو عمر، وذكر حديثه هذا، وقال في آخره: «قال الأصمعيّ: سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال: الإباق والسرقة والزنا، وسألته عن الْخَبثة فقال: بيع أهل عهد المسلمين». وقال الإمام أبو محمد بن عطية: والوجوب في ذلك قَلِقٌ، أمّا في الدّقَائِق فصعب شاقّ، وأما ما كثُر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يَسْتَحْي من العالم والرجل الكبير الموقّر فلا يُشهد عليه؛ فيدخل ذلك كله في الائتمان ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً؛ لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا. وحكي المهدوِيّ والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا: { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] منسوخ بقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [البقرة: 283]. وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدرِيّ، وأنه تلا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } إلى قوله { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } [البقرة: 283]، قال: نسخت هذه الآية ما قبلها. قال النحاس: وهذا قول الحسن والحكَم وعبد الرّحمٰن بن زيد. قال الطبريّ: وهذا لا معنى له؛ لأن هذا حكم غير الأوّل، وإنما هذا حُكْم من لم يجد كاتباً قال الله عزّ وجلّ: { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ـ أي فلم يطالبه برهن ـ فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }. قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخاً للأوّل لجاز أن يكون قوله عزّ وجلّ: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } [النساء: 43 والمائدة: 6] الآية ناسخاً لقوله عزّ وجلّ: { { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة: 6] الآية ولجاز أن يكون قوله عزّ وجلّ: { { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } } [النساء: 92، والمجادلة: 4] ناسخاً لقوله عزّ وجلّ: { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } } [النساء: 92] وقال بعض العلماء: إن قوله تعالىٰ: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } لم يتبيّن تأخّر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد، بل وردا معاً. ولا يجوز أن يُرد الناسخ والمنسوخ معاً جميعاً في حالة واحدة. قال: وقد روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له: إن آية الديّن منسوخة قال: لا والله إن آية الديْن محكمة ليس فيها نسخ قال: الإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالىٰ جعل لتوثيق الديْن طُرقاً، منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب. فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضراً وسفراً وبراً وبحراً وسهلاً وجبلاً من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير؛ ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.

قلت: هذا كله استدلال حسن؛ وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد، وهو ما خرّجه الدارقطنيّ عن طارق بن عبد الله المحاربيّ قال: «أقبلنا في ركب من الرَّبَذَةِ وجنوب الربَذة حتى نزلنا قريباً من المدينة ومعنا ظعينة لنا. فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسَلّم فرددنا عليه، فقال: مِن أيْن (أقبل) القوم؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة. قال: ومعنا جمل أحمر؛ فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا نعم. قال بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعاً من تَمْر. قال: فما استوضَعَنا شيئاً وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعِينة: لا تَلاوَموا رأيتُ وجه رجل ما كان لِيخْفِركم، ما رأيت وجه رجل أشبهَ بالقمر ليلة البدر من وجهه. فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السَّلام عليكم، أنا رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: فأكلنا حتى شبِعنا، واكتلنا حتى استوفينا». وذكر الحديث الزهِريّ "عن عمارة بن خُزَيْمة أنّ عمّه حدّثه وهو من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي؛ الحديث. وفيه: فطَفِقَ الأعرابيّ يقول: هَلُمَّ شاهداً يشهد أني بعتُك ـ قال خُزَيْمَةُ بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بِعته. فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على خُزَيْمَةَ فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. قال: فجعل رسول لله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين" . أخرجه النسائي وغيره.

الموفية خمسين ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } فيه ثلاثة أقوال:

الأوّل ـ لا يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها. قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم.

وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنّ المعنىٰ لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد. «وَلاَ يُضَارَّ» على هذين القولين أصله يُضَارِرَ بكسر الراء، ثم وقع الإدْغام، وفتحت الراء في الجزم لخفّة الفتحة. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال: لأن بعده «وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُيسُوقٌ بِكُمْ» فالأولىٰ أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يُقال له: فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهداً أن يشهد وهو مشغول. وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يُضارِرَ بكسر الراء والأُولىٰ.

وقال مجاهد والضّحاك وطاوس والسدّيّ وروي عن ابن عباس: معنى الآية { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } بأن يُدعَى الشاهدُ إلى الشهادة والكاتبُ إلى الكتْب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما، وقال: خالفتما أمر الله، ونحو هذا من القول فيضرّ بهما. وأصل «يُضارّ» على هذا يضاررَ بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود «يضارَر» بفتح الراء الأُولىٰ؛ فنهى الله سبحانه عن هذا؛ لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما. ولفظ المضارة؛ إذْ هو من اثنين، يقتضي هذه المعاني. والكاتب والشهيد على القولين الأوّلين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله.

الحادية والخمسون ـ قوله تعالىٰ: { وَإِن تَفْعَلُواْ } يعني المضارّة، { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي معصية؛ عن سفيان الثوريّ. فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤْذِي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق. وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله. وقوله { بِكُمْ } تقديره فسوقٌ حالٌّ بكم.

الثانية والخمسون ـ قوله تعالىٰ: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وعدٌ من الله تعالىٰ بأن من ٱتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقىٰ إليه؛ وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً، أي فيْصَلا يفصل به بين الحق والباطل؛ ومنه قوله تعالىٰ: { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [الأنفال: 29]. والله أعلم.