التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٨٦
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

.

قوله تعالى: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ } «أنتم» في موضع رفع بالابتداء، ولا يعرب؛ لأنه مضمَر. وضُمت التاء من «أنتم» لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحداً مذكّراً، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة؛ فلما ثنّيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة. { هَـٰؤُلاۤءِ } قال القُتَبِيّ: التقدير يا هؤلاء. قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه، ولا يجوز هذا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. و { تَقْتُلُونَ } داخل في الصلة؛ أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: «هؤلاء» رفع بالابتداء، و «أنتم» خبر مقدم، و «تقتلون» حال من أولاء. وقيل: «هؤلاء» نصب بإضمار أعني. وقرأ الزُّهْرِيّ «تُقَتِّلون» بضم التاء مشدّداً، وكذلك { { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ ٱللَّهِ } [البقرة:91]. وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل ردّه إلى الأسلاف. نزلت في بني قَيْنُقاع وقُرَيظة والنَّضِير من اليهود؛ وكانت بنو قَيْنُقاع أعداء قُريظة، وكانت الأَوْس حلفاء بني قَيْنُقاع، والخَزْرج حلفاء بني قُريظة. والنَّضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضاً إخوان، ثم ٱفترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم؛ فعيّرهم الله بذلك فقال: «وَإنْ يأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ».

قوله تعالى: { تَظَاهَرُونَ } معنى «تظاهرون» تتعاونون، مشتقّ من الظَّهر؛ لأن بعضهم يقوّي بعضاً فيكون له كالظهر؛ ومنه قول الشاعر:

تظاهرتُم أسْتاه بيتٍ تجّمعتعلى واحد لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحدِ

والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الإفراط في الظلم والتجاوز فيه. وقرأ أهل المدينة وأهل مكة «تَظّاهرون» بالتشديد، يُدغمون التاء في الظاء لقربها منها؛ والأصل تتظاهرون. وقرأ الكوفيون «تَظَاهرون» مخفّفاً، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها؛ وكذا« { وَإنْ تَظَاهَرا عَلَيْهِ } »[التحريم: 4]. وقرأ قتادة «تَظْهرون عليهم» وكله راجع إلى معنى التعاون؛ ومنه: { وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً } [الفرقان: 55] وقوله: { { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4] فٱعلمه.

قوله تعالى: { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } فيه ست مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ } شَرْط، وجوابه «تفادوهم» و «أُسارَى» نصب على الحال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم الأسارى، وما جاء مستأسِراً فهم الأَسْرَى. ولاَ يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، إنما هو كما تقول: سَكارى وسَكْرى. وقراءة الجماعة «أُسارى» ما عدا حمزة فإنه قرأ «أَسْرَى» على فَعْلَى، جمع أسير بمعنى مأسور؛ والباب ـ في تكسيره إذا كان كذلك ـ فَعْلَى، كما تقول: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى. قال أبو حاتم: ولا يجوز أَسَارى. وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سَكارى، وفَعالى هو الأصل، وفُعَالَى داخلة عليها. وحُكي عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير وأُسراء؛ كظريف وظُرفاء. قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى؛ وقرىء بهما. وقيل: أَسارى (بفتح الهمزة) وليست بالعالية.

الثانية: الأسير مشتق من الإسار، وهو القِدّ الذي يُشدّ به المحمل فسمِّيَ أسيراً؛ لأنه يشدّ وثاقه؛ والعرب تقول: قد أَسَرَ قَتَبه، أي شدّه؛ ثم سُمّيَ كل أَخِيذ أسيراً وإن لم يؤسر؛ وقال الأعشى:

وَقَيّدني الشِّعرُ في بَيْتِهِكما قَيّد الآسِراتُ الحِمارا

أي أنا في بيته؛ يريد بذلك بلوغه النهاية فيه. فأمّا الأَسْر في قوله عز وجل: { { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } [الإنسان: 28] فهو الخَلْق. وأُسرة الرجل رهطه؛ لأنه يتقوّى بهم.

الثالثة: قوله تعالى: { تُفَادُوهُمْ } كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي. والباقون «تَفْدُوهم» من الفداء. والفداء: طلب الفِدية في الأسير الذي في أيديهم. قال الجوهري: «الفداء إذا كُسِر أوله يُمدّ ويقصر، وإذا فُتح فهو مقصور؛ يقال: قُمْ ـ فدًى لك أبي. ومن العرب من يكسر «فِداءً» بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة؛ فيقول: فِداءٍ لك، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الأصمعي للنابغة:

مَهْلاً فِداءٍ لك الأقوامُ كلُّهمُوما أُثمِّرُ من مالٍ ومن وَلَدِ

ويقال: فَداه وفاداه إذا أعطى فِداءه فأنقذه. وفَداه بنفسه، وفدّاه يُفَدّيه إذا قال جعلت فَداك. وتَفَادَوْا؛ أي فَدَى بعضهم بعضاً». والفِدية والفَدَى والفِداء كله بمعنىً واحد. وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً، بمعنى فديت؛ ومنه قول العباس للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فاديتُ نفسي وفاديتُ عَقِيلاً. وهما فعلان يتعدّيان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر؛ تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي؛ قال الشاعر:

قِفِي فادِي أسيرَكَ إن قوميوقومَك ما أرى لهمُ ٱجتماعَا

الرابعة: قوله تعالى: { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } «هو» مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و «مُحَرّمٌ» خبره؛ و «إخراجُهم» بدل من «هو» وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، الجملة التي بعده خبره؛ أي والأمر محرّم عليكم إخراجهم. فـ «ـإخراجهم» مبتدأ ثان. و «محرم» خبره، والجملة خبر عن «هو»؛ وفي «محرّم» ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج. ويجوز أن يكون «محرمٌ» مبتدأ، و «إخراجهم» مفعول ما لم يُسَمّ فاعله يسدّ مسدّ خبر «محرم»، والجملة خبر عن «هو». وزعم الفراء أن «هو» عماد؛ وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له؛ لأن العماد لا يكون في أول الكلام. ويُقرأ «وهْوَ» بسكون الهاء لثقل الضمة؛ كما قال الشاعر:

فَهْو لا تَنْمِي رَمِّيتُهمالَه لا عُدّ مِن نَفَرِهْ

وكذلك إن جئت باللام وثم؛ وقد تقدم. قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم؛ فأعرضوا عن كل ما أمِروا به إلا الفداء؛ فوبّخهم الله على ذلك توبيخاً يُتْلَى فقال: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ } وهو التوراة { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }!!

قلت: ولَعَمْرُ الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذِّلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين؛ فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم!.

قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ٱبن خُوَيزِ مَنْداد: تضمّنت الآية وجوب فَكّ الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فكّ الأسارى وأمر بفكّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وٱنعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين؛ ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. وسيأتي.

الخامسة: قوله تعالى: { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } ٱبتداء وخبر. والخِزْيُ الهوان. قال الجوهري: وخَزِيَ ـ بالكسر ـ يَخْزَى خِزْياً إذا ذَلّ وهان. قال ٱبن السكّيت: وقع في بلية. وأخزاه الله، وخَزِي أيضاً يَخْزَى خِزاية إذا ٱستحيا، فهو خَزْيان. وقوم خَزَايا وٱمرأة خَزْيا.

السادسة: قوله تعالى: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ } «يردون» بالياء قراءة العامة، وقرأ الحسن «تردون» بالتاء على الخطاب. { إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تقدّم القول فيه، وكذلك: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ } الآية؛ فلا معنى للإعادة. «يومَ» منصوب بـ «ـيُرَدُّون».