التفاسير

< >
عرض

وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردّها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في ردّ وسوسته، والظَّلمةَ في رد ظلمهم، والكافرين في ردّ كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قوله «حَقَّ جِهاده» وقولَه في الآية الأخرى: «حَقَّ تُقاتِهِ» منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أوّل الحكم؛ لأن «حق جهاده» ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ دينكم أيْسَرُه" . وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حَيْوَة بن شُريح يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل" . وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة "أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ فقال أنا ذا، فقال عليه السلام: كلمةُ عَدْل عند سلطان جائر" .

قوله تعالى: { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } أي اختاركم للذبّ عن دينه والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.

قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { مِنْ حَرَجٍ } أي من ضِيق. وقد تقدّم في «الأنعام». وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطِيتْ هذه الأمة ثلاثاً لم يُعْطَها إلا نبيّ: كان يقال للنبيّ اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: { وما جعل عليكم في الدِّين من حرج }. والنبيّ شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: { لتكونوا شُهَدَاءَ على الناس }. ويقال للنبيّ: سلْ تُعْطَه، وقيل لهذه الأمة: { ادعوني أستجِبْ لكم }.

الثانية: واختلف العلماء في هذا الحَرَج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة: هو ما أحِلّ من النساء مَثْنَى وثلاثَ ورُباع، وما ملكتْ يَمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطارُ للمسافِر، وصلاةُ الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحَطُّ الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعَدِيم الذي لا يجد ما ينفق في غَزْوه، والغَرِيم ومن له والدان، وحَطّ الإصْر الذي كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء. وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن هذه في تقديم الأهِلّة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المُنْكَدِر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِطركم يوم تُفْطِرون وأضحاكم يوم تضحون" . خرجه أبو داود والدَّارَقُطْنِيّ، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم. وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يُسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: "افعل ولا حرج" .

الثالثة: قال العلماء: رفع الحَرَج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلاّبة والسُّرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدّين، وليس في الشرع أعظم حرجاً من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج.

قوله تعالى: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ } قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفرّاء: انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كمِلّة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } قال ابن زيد والحسن: «هو» راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم. { وَفِي هَـٰذَا } أي وفي حكمه أن من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: { { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128]. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة. روى علّي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبلُ، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن؛ قاله مجاهد وغيره. { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ } أي بتبليغه إياكم. { وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } أن رسلهم قد بلّغتهم؛ كما تقدّم في «البقرة». { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } قد تقدم مستوفًى والحمد لله رب العالمين.