التفاسير

< >
عرض

وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
-آل عمران

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى { وَٱعْتَصِمُواْ } العِصمة المَنْعة؛ ومنه يقال للبذْرَقَة: عِصْمةٌ. والبذرقة: الخَفَارَةُ للقافِلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ٱبن خالوية: البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عرّبتها العرب؛ يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة.

والحَبْل لفظ مُشتَرك، وأصله في اللغة السَببُ الذي يوصل بِه إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق. والحبل: مستطيل من الرمل، ومنه الحديث: والله ما تركتُ من حبل إلا وقفتُ عليه، فهل لي مِن حَجٍّ؛ والحبل الرسَنُ. والحبل العهد؛ قال الأعشى:

وإذا تُجَوِّزُها حِبالُ قَبيلةٍأخذتْ من الأخرى إليك حِبالِها

يريد الأمان. والحبل الداهية؛ قال كثير:

فلا تعجَلي يا عَزُّ أن تتَفَهَّمِيبُنْصح أتى الواشُون أم بِحُبُولِ

والحِبَالة: حِبالة الصّائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد؛ عن آبن عباس. وقال آبن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه على وأبو سعيد الحدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله" . وروى تَقي بن مخلّد حُدّثنا يحيى بن عبد الحميد حدّثنا هشيم عن العوّام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } قال: الجماعة؛ روي عنه و (عن غيره) من وجوه، والمعنى كله متقارب مُتَدَاخِل؛ فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفُرْقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ٱبن المبارك حيث قال:

إن الجماعة حَبْلُ الله فآعتَصِموامنه بِعُروته الوُثْقى لمن دَانا

الثانية: قوله تعالى: { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } (يعني في دينكم) كما ٱفترقت اليهود والنصارى في أديانهم؛ عن ٱبن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دِين الله إخوانا؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر؛ ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }. وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع: فإن ذلك ليس ٱختلافا إذ الآختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب آستخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمّتي رحمة" وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فِرقة أو ٱثنتين وسبعين فِرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فِرقة" . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أيضاً عن ٱبن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمّة علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرّقت آثنتين وسبعين مِلةً وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين مِلةً كلهم في النار إلا مِلة واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ ما أنا عليه وأصحابي" . أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد عن ٱبن عمرو، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه. قال أبو عمر: وعبد الله الأفريقي ثِقة وثقة قومه وأثنوا عليه، وضعّفه آخرون. وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال ألا إنّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين مِلة وإن هذه المِلة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوامٌ تجارى بهم تلك الأهْواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يَبْقَى منه عِرقٌ ولا مِفصَلٌ إلا دخله" . وفي سنن ٱبن ماجه عن أنس ٱبن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات واللَّهُ عنه راض" . قال أنس: وهو دِين الله الذي جاءت به الرسل وبلّغوه عن ربهم قبل هَرَج الأحاديث وآختلاف الآهْوَاء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: «فَإنْ تَابُوا» قال: خلعوا الأوثان وعبادتها { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاة }، وقال في آية أخرى: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } . [التوبة: 11] أخرجه عن نصر بن علي الجَهْضَمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس. قال أبو الفِرج الجَوْزي: فإن قيل هذه الفِرقَ معروفة؛ فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفِرق وأن كل طائفة من الفِرق ٱنقسمت إلى فِرَق، وإن لم نُحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من أصول الفِرق الحَرُوريّة والقَدَرِية والجَهْمِية والمَرجِئة والرافِضَة والجَبْرِية. وقال بعض أهل العلم: أصل الفِرق الضّالة هذه الفِرق السّتْ، وقد ٱنقسمت كل فِرقة منها آثنتي عشرة فِرقة، فصارت آثنتين وسبعين فِرقة. آنقسمت الحَرُوريّة آثنتي عشرة فرقة؛ فأولهم الأزْرَقِيَّةُ ـ قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا؛ وكفّروا أهل القِبْلة إلاَ من دان بقولهم. والأباضية ـ قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق. والثعلبية ـ قالوا: إن الله عز وجل لم يقض ولم يُقَدَّر. والخازِمِيّة ـ قالوا: لا ندري ما الإيمان، والخلق كلهم معذورون. والخلَفِيَة ـ زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية ـ قالوا: ليس لأحد أن يَمسّ أحدا وأنه لا يعرف الطاهر من النّجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكَنزيّة ـ قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي مالَه أحدا؛ لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق. والشّمراخِيّة ـ قالوا: لا بأس بمسِّ النساء الأجانب لأنهن رياحين. والأخْنَسية ـ قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكميّة ـ قالوا: مَن حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة ـ قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. والميمونية ـ قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا.

وانقسمت القَدَرية ٱثنتى عشرة فرقة: الأحمرية ـ وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملّك عباده أمورَهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثَّنَويّة ـ وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة ـ وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا (صفات) الرّبوبيّة. والكَيْسانية ـ وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أيثاب الناس بعدُ أو يعاقبون. والشيطانية ـ قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشّريكية ـ قالوا: إن السيئات كلها مقدّرة إلا الكفر. والوَهْميّة ـ قالوا: ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزِّبْرية ـ قالوا: كل كتاب نزل من عند ٱلله فالعمل به حق، ناسخاً كان أو منسوخاً. والمسعدية ـ زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكِثية ـ زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه. والقاسِطية ـ تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شيء فهو كافر. وٱنقسمت الْجَهميّة ٱثنتى عشرة فرقة: المعطّلة ـ زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق، وأن من ٱدّعى أن الله يُرى فهو كافر. والمريسية - قالوا: أكثر صفات الله تعالى مخلوقة. والمَلْتَزِقَة ـ جعلوا الباري سبحانه في كل مكان. والوَارِدِيّة ـ قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبداً. والزنَادِقَة ـ قالوا: ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربّاً؛ لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس، وما لا يُدرك لا يثبت. والحَرْقَيّة ـ زعموا أن الكافر تحرقه النار مرّة واحدة ثم يبقى محترقاً أبداً لا يجد حرّ النار. والمخْلُوقية ـ زعموا أن القرآن مخلوق. والفانية ـ زعموا أن الجنة والنّار يفنيان، ومنهم من قال لم يُخلقا. والعبدِية ـ جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء. والواقفية ـ قالوا: لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. والقَبْرية ـ ينكرون عذاب القبر والشفاعة. واللفْظية ـ قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق.

وانقسمت المرجئة ٱثنتى عشرة فرقة: التّارِكيّة ـ قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسّائِبيّة ـ قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاءوا. والراجِيّة ـ قالوا: لا يُسمّى الطائع طائعاً ولا العاصي عاصياً، لأنَا لا ندري ما لَه عند الله تعالى. والسّالِبيّة ـ قالوا: الطاعة ليست من الإيمان. والبهيشية ـ قالوا: الإيمان عِلْمٌ ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعَمَلِيّة ـ قالوا: الإيمان عَمَلٌ. والمَنْقُوصيّة ـ قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمسْتَثْنِية ـ قالوا: الاستثناء من الإيمان. والمشبِّهة ـ قالوا: بَصَرٌ كبصرٍ ويَدٌ كيدٍ. والحشوية ـ قالوا: حكم الأحاديث كلها واحد؛ فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهِرِية ـ الذين نفوا القياس. والبِدْعية ـ أوّل من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأُمة.

وانقسمت الرافضة ٱثنتي عشرة فرقة: العلوية ـ قالوا: إن الرسالة كانت إلى عليّ وإن جبريل أخطأ. والأمِرِيّة ـ قالوا: إن عليّاً شريك محمد في أمره. والشِّيعة ـ قالوا: إن عليّاً رضي الله عنه وصِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووَليُّه من بعده، وإن الأمّة كفرت بمبايعة غيره. والإسحاقية ـ قالوا: إن النبوّة متصلة إلى يوم القيامة، وكلّ مَن يعلم علم أهل البيت فهو نبيّ. والناوُوسيّة ـ قالوا: عليّ أفضل الأمة، فمن فضّل غيره عليه فقد كفر. والإمامية ـ قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الإمام يعلِّمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدّل غيره مكانه. والزيدِية ـ قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وُجد منهم أحد لم تجز الصلاةُ خلف غيرهم، برّهم وفاجرهم. والعباسية ـ زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية ـ قالوا: الأرواح تتناسخ؛ فمن كان مُحسناً خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرَّجعية ـ زعموا أن عليّاً وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاّعِنَة ـ يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشةَ وغيرَهم. والمتربّصة ـ تشبهوا بزيّ النُّساك ونصبوا في كل عصر رجلاً ينسُبون إليه الأمر، يزعمون أنه مَهدِيُّ هذه الأُمة، فإذا مات نصبوا آخر.

ثم ٱنقسمت الجَبْرية اثنتى عشرة فرقة: فمنهم المضطرية ـ قالوا: لا فعل للآدميّ، بل الله يفعل الكل. والأفعالية ـ قالوا: لنا أفعال ولكن لا ٱستطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية ـ قالوا: كل الأشياء قد خُلقت، والآن لا يُخلق شيء. والنجارية ـ زعمت أن الله تعالى يعذّب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنّانيّة ـ قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسّمت منه الخير. والكَسْبية ـ قالوا: لا يكتسب العبد ثواباً ولا عقاباً. والسّابقية ـ قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء (فـ) ـلا يعمل، فإن السعيد لا تضرّه ذنوبه والشّقي لا ينفعه بِرّه. والحِبِّية ـ قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان. والخوفية ـ قالوا: من أحبّ الله تعالى لم يسعه أن يخافه؛ لأن الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية ـ قالوا: من ٱزداد علماً أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.

والخشبية ـ قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضُل بينهم فيما ورَّثَهم أبوهم آدم. والمَنّيّه ـ قالوا: منا الفعل ولنا الاستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأُمة في آخر سورة «الأنعام» إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعةَ الجماعةٰ فإنما هلكت الأُمم الخالية لتفرّقها؛ أما سمعت الله عز وجل يقول: { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل ٱلله جميعاً ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثاً قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" . فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة ٱعتقاداً وعملاً، وذلك سبب اتفاق الكلمة وٱنتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين. هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أُصول الفقه، وٱلله أعلم.

قوله تعالى: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا }. أمر تعالى بتذكّر نعمه وأعظمها الإسلام وٱتباع نبيه محمد عليه السلام؛ فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. والمراد الأوْس والخزرج؛ والآية تَعُم. ومعنى { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } أي صرتم بنعمة الإسلام إخواناً في الدِّين. وكل ما في القرآن «أصبحتم» معناه صرتم؛ كقوله تعالى: { { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [الملك: 30] أي صار غائراً. والإخوان جمع أخ، وسُمِّي أخاً لأنه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده. وشَفا كلِّ شيء حرفهُ، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى: { عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [التوبة: 109]. قال الراجز:

نحن حفرنا للحجيج سَجْلَهْ نابتة فوق شِفاها بَقْلَهْ

وأشْفَى على الشيء أشرف عليه؛ ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شَفاً أي قليل. قال ٱبن السّكّيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند ٱمحّاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفاً أي قليل. قال العجاج:

ومَرْبَإ عالٍ لمن تشرّفَاأشرفْتُه بلا شفًى أو بشَفَى

قوله «بلا شفى» أي غابت الشمس. «أو بشفى» وقد بقيت منها بقيّة. وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو. وقال النحاس: الأصل في شفا شَفَو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال. وقال الأخفش: لمّا لم تَجُز فيه الإمالة عُرف أنه من الواو؛ ولأن الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المَهْدَويّ: وهذا تمثيل يراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان.