التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
-آل عمران

الجامع لاحكام القرآن

قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحُد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحبَ لِوَاء المشركين وسبعةَ نفر منهم بعدَه على اللواء، وكان الظفر ابتداءً للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعضُ الرّماة أيضاً مركزَهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة. روى البخاري "عن البَرَاء بن عازب قال: لما كان يوم أحُدٍ ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً من الرُّماة وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: لا تبرحوا من مكانكم (إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا) وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تُعينونا عليهم" قال: فلمّا التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يَشّتَدِدْن في الجبل، وقد رفعن عن سُوقِهن قد بدت خلاخِلُهن فجعلوا يقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ. فقال لهم عبد الله: أمهلواٰ أما عَهِد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ تبرحوا، فٱنطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقُتِل من المسلمين سبعون رجلاً. ثم إنّ أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نَشَزٍ فقال: أفي القوم محمدٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُجيبوه» حتى قالها ثلاثاً. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قُحافة؟ ثلاثاً، فقال النبيّ؛ «لا تُجيبوه» ثم قال: أفي القوم عمر (بن الخطاب)؟ ثلاثاً، فقال النبيّ: «لا تُجيبوه» ثم التفت إلى أصحابه فقال: أمّا هؤلاء فقد قتِلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبتَ يا عدوّ اللهٰ قد أبقى الله لك من يُخزِيك به. فقال: أُعْلُ هُبَل؛ مرتين. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال «قولوا اللَّهُ أعْلَىٰ وأجَلّ». قال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه». ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا «الله مولانا ولا مَوْلَى لكم». قال أبو سفيان: يومٌ بِيَوْم بَدْرٍ، والحرب سِجَال، أمَا إنكم ستجدون في القوم مُثْلة لم آمر بها ولم تسؤْني. وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاصٍ قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحُد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبلُ ولا بعدُ. يعني جِبريل ومِيكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلاَّ يوم بدر. قال البيهقُي؛ إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أُحُد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عزّ وجلّ وعدهم على الصبر والتقوى أن يُمِدَّهم بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين: وكان قد فعل: فلما عَصَوْا أمر الرسول وتركوا مَصَافَّهُم وترك الرماةُ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألاّ يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رُفع عنهم مددُ الملائكة، وأنزل الله تعالىٰ: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عَصَوْا أعقبهم البلاء. وعن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحُد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعْدٌ يَرِمي بين يديه، وفَتًى يُنَبِّل له، كلما ذهبت نَبْلَةٌ أتاه بها. قال: «ارْمِ أبا إسحاق». فلما فرغوا نظروا مَن الشابّ؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب: ولما قُتِل صاحب لواءِ المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عَمْرَة بنت علقمة الحارِثية؛ وفي ذلك يقول حَسّان:

فَلولاَ لِواءُ الحارِثِية أصبحوايباعُون في الأسواق بَيْعَ الجلائب

و { تَحُسُّونَهُمْ } معناه تقتلونهم وتستأصلونهم؛ قال الشاعر:

حَسَسْناهم بالسّيْف حَسّاً فأصبحتْبقِيّتُهم قد شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا

وقـال جرير:

تَحُسُّهُمُ السّيُوفُ كما تَسامَىحَرِيقُ النَّارِ في الأَجمِ الحَصِيدِ

قال أبو عبيد: الحَسُّ الاستئصال بالقتل؛ يقال: جراد محسوس إذا قتله البرْدُ. والبر مَحَسَّةٌ للنبت. أي مُحْرِقَةٌ له ذاهبة به. وسَنَةٌ حَسُوس أي جدبة تأكل كل شيء؛ قال رؤبة:

إذا شَكَوْنا سَنَةً حَسُوسَاتأكل بعدَ الأخْضَر اليَبِيسَا

أصله من الحِسّ الذي هو الإدراك بالحاسة. فمعنى حَسّه أذهب حِسّ بالقتل. { بِإِذْنِهِ } بعلمه، أو بقضائه وأمره. { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جَبُنتم وضَعفُتم. يُقال: فَشِل يَفْشَل فهو فَشِل وفَشْل. وجواب «حتى» محذوف، أي حتى إذا فشِلتم امْتُحِنتم. ومثل هذا جائز كقوله: { فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ } } [الأنعام: 35] فافعل. وقال الفرّاء: جواب «حَتَّىٰ»، «وَتَنَازَعْتُمْ» والواو مقْحَمة زائدة؛ كقوله «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينَ. وَنَادَيْنَاهُ» أي ناديناه. وقال ٱمرؤ القيس:

فَلَمّـا أجَزْنـا ساحَـةَ الحَـيِّ وَٱنْتَحَـى

أي انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من «وَعَصَيْتُمْ». أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشِلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب «صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ»، و «ثُمَّ» زائدة، والتقدير حتى إذا فشِلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول الشاعر:

أرانِي إِذا ما بِتُّ بِتّ على هَوًىفثُمّ إذا أصبحتُ أصبحتُ عادِيا

وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالىٰ: { { حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 118]. وقيل: «حتى» بمعنى «إلى» وحينئذ لا جواب له؛ أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى { وَتَنَازَعْتُمْ } اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. { وَعَصَيْتُمْ } أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحُد أوّل أمرهم؛ وذلك حين صُرِع صاحب لواء المشركين على ما تقدّم، وذلك أنه لما صُرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرّقة فَحاسُوا العدوّ ضرباً حتى أجْهَضُوهُم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرّات كل ذلك تُنْضَح بالنَّبْل فترجع مغلوبةً، وحمل المسلمون فَنَهَكُوهُم قتلاً. فلما أبصر الرماةُ الخمسون أن الله عزّ وجلّ قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدوّ وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم؛ عَلامَ نقفُ وقد هزم الله العدوّ؟ فتركوا منازلهم التي عهِد إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ألاّ يتركوها، وتنازعوا وفشِلوا وعصوا الرسول فأوْجَفَت الخيل فيهم قتلاً. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادىء النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهِزام. ثم بيّن سبب التنازع فقال: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني الغنيمة. قال ٱبن مسعود: ما شعرنا أن أحداً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أُحُد. { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدِ الله ابن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعِكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعِتاب مع مَن ٱنهزم لا مع مَن ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ماحل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة، والله أعلم.

قوله تعالى: { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي بعد أن استوليتم عليهم ردّكم عنهم بالانهزام. ودَلّ هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالىٰ بإخراجه الرّعب من قلوب الكافرين من المسلمين إبتلاءً لهم. قال القشيرِي: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرّعب من قلوب الكافرين حتى يستخفّوا بالمسلمين قبيحٌ ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيحٌ، فلا يبقى لقوله: { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } معنًى. وقيل: معنى { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي لم يكلفكم طلبهم.

قوله تعالىٰ: { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أُمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ }. { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نُصِر النبيّ صلى الله عليه وسلم في موطن كما نُصِر يوم أُحُد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجلّ، إن الله عزّ وجلّ يقول في يوم أُحُد: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } ـ يقول ابن عباس: والحَسّ القتل { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنِمنا فلا تشركونا" . فلما غنمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماةُ جميعاً فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا ـ وشبّك أصابع يديه ـ وٱلتبسوا. فلما أخَل الرماةُ تلك الخَلّة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه أوّلُ النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المِهراس وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يُشَك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتِل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السَعْدَيْن، نعرفه بتكفّئِهِ إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنّا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقى نحونا وهو يقول: "اشتدّ غضب الله على قوم دَمَّوا وجهَ نَبِيهم" . وقال كعب بن مالك: أنا كنت أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المِغْفَر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشِروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل: فأشار إليّ أن أسكت.