التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٧٨
-آل عمران

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالىٰ: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } الإملاء طول العمر ورَغَد العيش. والمعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يُخَوّفون المسلمين؛ فإن الله قادر على إهلاكهم. وإنما يُطوِّل أعمارهم ليعملوا بالمعاصي، لا لأنه خير لهم. ويُقال: «أنما نملِي لهم» بما أصابوا من الظَّفَر يومَ أُحُد لم يكن ذلك خيراً لأنفسهم؛ وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة. ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: ما من أحد بَرّ ولا فاجر إلاَّ والموتُ خير له، لأنه إِنْ كان بَرّاً فقد قال الله تعالىٰ: { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } وإن كان فاجراً فقد قال الله: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً }. وقرأ ٱبن عامرٍ وعاصم «لا يَحَسبن» بالياء ونصب السين. وقرأ حمزة: بالتاء ونصب السين. والباقون: بالياء وكسر السين. فمن قرأ بالياء فالذين فاعلون. أي فلا يحسبن الكفار. و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } تسدّ مسدّ المفعولين. و «مَا» بمعنى الذي، والعائد محذوف، و «خير» خبر «أنّ». ويجوز أن تقدّر «ما» والفعل مصدراً؛ والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ومن قرأ بالتاء فالفاعل هو المخاطب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. و «الذِين» نصب على المفعول الأوّل لتحسب. وأن وما بعدها بدل من الذين، وهي تسدّ مسدّ المفعولين، كما تسد لو لم تكن بدلاً. ولا يصلح أن تكون «أنّ» وما بعدها مفعولاً ثانياً لتحسب؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأوّل في المعنى: لأن حسِب وأخواتها داخلة على المبتدأ والخبر؛ فيكون التقدير: ولا تحسبن أنما نُملي لهم خير. هذا قول الزجاج. وقال أبو عليّ: لو صحّ هذا لقال «خيراً» بالنصب؛ لأن «أنّ» تصير بدلاً من «الذين كفروا»؛ فَكَأَنَّه قال: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيراً؛ فقوله «خيراً» هو المفعول الثاني لحسِب. فإذاً لا يجوز أن يقرأ «لا تحسبن» بالتاء إلاَّ أن تكسر «إنّ» في «أنما» وتنصب خيراً، ولم يُرْوَ ذلك عن حمزة، والقراءة عن حمزة بالتاء؛ فلا تصح هذه القراءة إذاً. وقال الفَرَّاء والكسائيّ: قراءة حمزة جائزة على التكرير؛ تقديره ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم خير؛ فسدّت «أن» مسدّ المفعولين لتحسب الثاني، وهي وما عملت مفعول ثانٍ لتحسب الأوّل. قال القشيرِيّ؛ وهذا قريب مما ذكره الزجاج في دعوى البدل، والقراءة صحيحة. فإذاً غرض أبي عليّ تغليظ الزجاج. قال النحاس: وزعم أبو حاتم أنّ قراءة حمزة بالتاء هنا، وقوله: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } لحن لا يجوز. وتبعه على ذلك جماعة.

قلت: وهذا ليس بشيء؛ لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلاً. وقرأ يحيى بن وثاب «إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ» بكسر إنّ فيهما جميعاً. قال أبو جعفر: وقراءة يحيى حسنة. كما تقول: حسبت عمراً أبوه خالد. قال أبو حاتم: وسمعت الأخفش يذكر كسر «إن» يحتج به لأهل القدر؛ لأنه كان منهم. ويجعل على التقديم والتأخير «وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً إنما نُملي لهم خير لأنفسهم». قال: ورأيت في مصحفٍ في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفاً فصار «إنما نملي لهم إيماناً» فنظر إليه يعقوب القارىء فتبين اللحن فحكه. والآية نصٌّ في بطلان مذهب القدرية؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان. وعن ابن عباس قال: ما من بَرّ ولا فاجر إلاَّ والموت خير له ثم تلا: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } وتلا { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أخرجه رزِين.