التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٠
ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
١٩٢
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ
١٩٣
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
١٩٤
فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ
١٩٥
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١٩٦
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٩٧
لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
١٩٨
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩٩
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٢٠٠
-آل عمران

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } تقدّم معنى هذه الآية في «البقرة» في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته؛ إذ لا تصدر إلا عن حَيّ قيّوم قدير قُدّوس سلامٍ غنيٍّ عن العالمين؛ حتى يكون إيمانُهم مستنداً إلى اليقين لا إلى التقليد. { لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } الذين يستعملون عقولهم في تأمّل الدلائل. ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم قام يُصلي، فأتاه بِلالٌ يُؤْذِنُه بالصلاة، فرآه يَبْكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر! فقال: " يا بلالُ، أفلا أكون عبداً شكوراً ولقد أنزل الله عليّ الليلة آية { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } ـ ثم قال: وَيْلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها" .

الثانية ـ قال العلماء: يستحبّ لمن ٱنتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي؛ ثم يصلّي ما كُتب له، فيجمع بين التفكّر والعمل، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. ورُوي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة «آل عمران» كل ليلة، خرّجه أبو نصر الوائلي السِّجِسْتانِيّ الحافظ في كتاب «الإبانة» من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزوميّ عن المَقْبُريّ عن أبي هريرة. وقد تقدّم أوّل السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كُتب له قيام ليلة.

الثالثة: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلوا ٱبن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصُر زَمانه. ومن هذا المعنى قولُ عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. أخرجه مسلم. فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغيرُ ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا؛ فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو وٱبن سِيرين والنَّخعِيّ، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبيّ. والأوّل أصح لعموم الآية والحديث. قال النَّخعيّ: لا بأس بذكر الله في الخلاء فإنه يَصعد. المعنى: تَصعد به الملائكة مكتوباً في صحفهم؛ فحذف المضاف. دليله قوله تعالى: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [قۤ: 18]. وقال: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } } [الإنفطار: 10-11] ولأن الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب: 41] وقال: { { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } } [البقرة: 152] وقال: { { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [الكهف: 30] فعمّ. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مُثابٌ مَأجُور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدّثني أبي قال حدّثنا وكِيع قال حدّثنا سفيان عن عطاء بن أبي مَرْوان عن أبيه عن كَعب الأحبار قال:قال موس عليه السلام: «يا ربّ أقريبٌ أنت فأُناجِيك أم بعيد فأُنَادِيك قال: يا موسى أنا جليسُ مَن ذكرني قال: يا ربّ فإنا نكون من الحال على حال نُجِلّك ونُعظّمك أن نَذْكُرك قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط قال: يا موسى اذكرني على كل حال». وكراهية من كَرِه ذلك إمّا لتنزيه ذِكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيه ككراهية قراءة القرآن في الحمّام، وإما إبقاء على الكِرام الكاتبين على أن يحلّهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفِظ به، والله أعلم. و { قِيَاماً وَقُعُوداً } نُصب على الحال. { وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } في موضع الحال؛ أي ومضطجعين ومثله قوله تعالى: { { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [يونس: 12] على العكس؛ أي دعانا مضطجعاً على جَنبه. وذهب جماعة من المفسرين منهم الحسن وغيره إلى أن قوله { يَذْكُرُونَ اللَّهَ } إلى آخره، إنما هو عبارة عن الصلاة؛ أي لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعوداً أو على جنوبهم. وهي مثل قوله تعالى: { { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلاَةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } [النساء: 103] في قول ابن مسعود على ما يأتي بيانه. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلّي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جَنبه؛ كما ثبت "عن عِمران بن حُصين قال: كان بي البَواسِير فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جُنْب" رواه الأئمة: وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلِّي قاعداً قبل موته بعام في النافلة؛ على ما في صحيح مسلم. وروى النَّسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي متربّعاً. قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير أبي داود الحَفَرِيّ وهو ثقة، ولا أحسَب هذا الحديث إلا خطأ، والله أعلم.

الرابعة: واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها؛ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه يتربّع في قيامه، وقاله البُوَيْطِيّ عن الشافعيّ. فإذا أراد السجود تهيّأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعيّ في رواية المُزَنيّ: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وُروي هذا عن مالك وأصحابِه؛ والأوّل المشهور وهو ظاهر المدوّنة. وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع ويسجد.

الخامسة: قال: فإن لم يستطع القعود صلَّى على جنبه أو ظهره على التخيير؛ هذا مذهب المدوّنة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلِّي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر. وفي كتاب ابن الموّاز عكسه، يصلِّي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون: يصلِّي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا صلَّى مضطجعاً تكون رجلاه مما يلي القِبلة. والشافعيّ والثوريّ: يصلي على جنبه ووجهه إلى القِبلة.

السادسة: فإن قوِي لخفة المرض وهو في الصلاة؛ قال ابن القاسم: إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبنِي على ما مضى؛ وهو قول الشافعيّ وزفر والطبريّ. وقال أبو حنيفة وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلَّى مضطجعاً ركعة ثم صحّ: إنه يستقبل الصلاة من أوّلها، ولو كان قاعداً يركع ويسجد ثم صحّ بنى في قول أبي حنيفة ولم يَبْنِ في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا ٱفتتح الصلاة قائماً ثم صار إلى حدّ الإيماء فليَبْن؛ وروى عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس: إنه يصلِّي قائماً ويومىء إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود؛ وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعيّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلِّي قاعداً.

السابعة: وأما صلاة الراقد الصحيح فروي من حديث عِمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره، وهي: «صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد». قال أبو عمر: وجمهور أهل العلم لا يُجيزُون النافلَة مضطجعاً؛ وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلِّم وهو حسين ابن ذَكْوان عن عبد الله بن برَيْدة عن عِمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه ٱختلافاً يوجب التوقف عنه، وإن صحّ فلا أدري ما وجهه؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعاً لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقداً لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إمّا غلط وإما منسوخ. وقيل: المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغيِّر لا بدّ له من مُغيِّر، وذلك المغير يجب أن يكون قادراً على الكمال، وله أن يبعث الرسل، فإن بعث رسولاً ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لأحد عذر؛ فهؤلاء هم الذين يذكرون الله على كل حال، والله أعلم.

الثامنة: قوله تعالى: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } قد بينا معنى { ويذكرون } وهو إما ذِكر باللسان وإمّا الصلاة فرضها ونفلها؛ فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعِبر الذي بَثّ؛ ليكون ذلك أزْيَد في بصائرهم:

وفي كلِّ شَيْءٍ له آيَةٌتَدُلُّ على أنَّهُ واحدُ

وقيل: «يتفكرون» عطف على الحال. وقيل: يكون منقطعاً؛ والأوّل أشبه. والفكرة: تردّد القلب في الشيء؛ يقال: تفكّرم، ورجل فِكّير كثير الفِكْر. ومرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكّرون في الله فقال: "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره" وإنما التفكر والاعتبار وٱنبساط الذهن في المخلوقات كما قال: { ويتفكرون في خلقِ السمواتِ والأرضِ }. وحكي أن سفيان الثوريّ رضي الله عنه صلَّى خلف المقام ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدّم من طول حزنه وفكرته. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل مستلقٍ على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لكِ رباً وخالقاً اللهم ٱغفر لي فنظر الله إليه فغفر له" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا عبادة كتفكر" . ورُوي عنه عليه السلام قال: "تفكر ساعةٍ خير من عبادة سنة" . وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين. وقيل لابن المسيّب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله. وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة؛ وقاله ابن عباس وأبو الدرداء. وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته. ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ويروى أن أبا سليمان الدارانيّ رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكراً حتى طلع الفجر؛ فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ قال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى { إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ } تفكرت في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت. قال ابن عطية: «وهذا نهاية الخوف، وخير الأُمور أوساطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهَم ويُرجى نفعه أفضل من هذا». قال ابن العربيّ: اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة؛ فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل؛ فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل المقامات الشرعية. وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل؛ لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته مَيْمُونَة، وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الحواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شَنّ معلَّق فتوضأ وضوءاً خفيفاً ثم صلى ثلاث عشر ركعة؛ الحديث. فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده؛ وهذه السنة هي التي يعتمد عليها. فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوماً وليلة وشهراً مفكراً لا يفتر؛ فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرّة على السنن. قال ابن عطية: وحدّثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتاً في مسجد الأقْدَام بمصر فصلّيت العتمة فرأيت رجلاً قد اضطجع في كساء له مسجًّى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة؛ فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلّىٰ مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصَّلاة بغير وضوء؛ فلما فرغت الصَّلاة خرج فتبِعته لأعِظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعراً:

مُسجّى الجسِم غائبٌ حاضرمُنْتَبِه القلبِ صامِتٌ ذاكِر
منقبض في الغُيوب منبسِطكذاك من كان عارفاً ذاكِر
يَبيتُ في ليلهِ أخا فِكَرٍفهو مَدَى الليلِ نائمٌ ساهر

قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفتُ عنه.

التاسعة: قوله تعالىٰ: { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } أي يقولون: ما خلقته عبثاً وهزلاً، بل خلقته دليلاً على قدرتك وحِكمتك. والباطل: الزائِل الذاهب؛ ومنه قول لَبِيد:

ألاَ كُـلّ شَيْء مـا خَـلاَ اللَّهَ باطِـلٌ

أي زائل. و «بَاطِلاً» نِصب لأنه نعت مصدرٍ محذوف؛ أي خلقاً باطلاً. وقيل؛ ٱنتصب على نزع الخافض، أي ما خلقتها للباطل. وقيل: على المفعول الثاني، ويكون خلق بمعنى جعل. { سُبْحَانَكَ } أسند النحاس عن موسى بنِ طلحة قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى «سُبْحَانَ اللَّهَ» فقال: «تنزِيه الله عن السوء» وقد تقدّم في «البقرة» معناه مستوفى. { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أجِرنَا من عذابها، وقد تقدّم.

العاشرة: قوله تعالى: { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي أذللته وأهنته. وقال المفضل: أي أهلكته؛ وأنشد:

أخْزَى الإلهُ من الصّلِيب عبِيدَهواللابِسِين قَلاَنِس الرهبانِ

وقيل: فضحته وأبعدته؛ يُقال: أخزاه الله: أبعده ومَقَتَه. والاسم الخِزْيُ. قال ابن السكيت: خَزِيَ يَخْزَي خِزْياً إذا وقع في بِليّة. وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا: من أدخل النار ينبغي ألا يكون مؤمناً؛ لقوله تعالىٰ: { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }؛ فإن الله يقول: { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } } [التحريم: 8]. وما قالوه مردود؛ لقيام الأدلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان، كما تقدّم ويأتي. والمراد من قوله: { مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ } من تخلد في النار؛ قاله أنس بن مالك. وقال قتادة: تدخِل مقلوب تخلد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. وقال سعيد بن المسيب: الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار؛ ولهذا قال؛ { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي الكفار. وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحَيَاء؛ يُقال: خَزِيَ يَخْزَي خِزَايَةً إذا ٱستحيا، فهو خَزْيان. قال ذو الرمة:

خِزَايَةٌ أدركتْه عِنْد جَوْلَتِهمن جانب الحَبْلِ مخلوطاً بها الغضبُ

فخْزيُ المؤمِنين يومئذٍ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها. والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت؛ والمؤمنون يموتون، فافترقوا. كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدرِيّ، أخرجه مسلم، وقد تقّدم ويأتي.

الحادية عشرة: قوله تعالىٰ: { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي محمداً صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن مسعود وابن عباسٍ وأكثر المفسرين. وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظيّ: هو القرآن، وليس كلهم سمع رسول الله. دليل هذا القول ما أخبر الله تعالىٰ من مؤمِنِي الجِنّ إذ قالوا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } } [الجن: 1]. وأجاب الأوّلون فقالوا: من سمع القرآن فكأنما لقِي النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهذا صحيح معنى. وأنْ من { أَنْ آمِنُواْ } في موضع نصب على حذف حرف الخفض، أي بأن آمنوا. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي سمعنا منادياً للإيمان ينادي؛ عن أبي عبيدة. وقيل: اللام بمعنى إلي، أي إلى الإيمان؛ كقوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [المجادلة: 8]. وقوله: { { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [الزلزلة: 5] وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا } [الأعراف: 43] أي إلى هذا، ومثله كثير. وقيل: هي لام أجل، أي لأجل الإيمان.

الثانية عشرة: قوله تعالىٰ: { رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد؛ فإن الغفر والكفر؛ الستر. { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } أي أبراراً مع الأنبياء، أي في جملتهم. واحدهم بَرٌّ وبَارٌّ وأصله من الاتساع؛ فكأن البرّ متسِع في طاعة الله ومتّسِعة له رحمة الله.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } أي على ألسِنة رسلك؛ مثل { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] وقرأ الأعمش والزهريّ «رُسْلِكَ» بالتخفيف، وهو ما ذكر من ٱستغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين؛ والملائكة يستغفرون لمن في الأرض. وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستِغفارِ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمته. { وَلاَ تُخْزِنَا } أي لا تعذبنا ولا تهلِكنا ولا تفضحنا، ولا تهِنا ولا تبعِدنا ولا تمقتنا يوم القيامة { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }. إن قيل: ما وجه قولهم { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأوّل: أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وُعِد بذلك دون الْخزِي والعِقاب.

الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع؛ والدعاء مُخّ العبادة. وهذا كقوله: { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [الأنبياء: 112] وإن كان هو لا يقضِي إلاَّ بالحق.

الثالث: سألوا أن يُعطوا ما وعِدوا به من النصر على عدوّهم معجَّلا؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازاً للدّين. والله أعلم. وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وعده الله عزّ وجلّ على عمل ثواباً فهو مُنْجِزٌ له رحمة وَمن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار" . والعرب تذمّ بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد؛ حتى قال قائلهم:

ولا يرهَبُ ٱبن العمّ ما عِشتُ صَوْلَتِيولا أخْتَفِي من خَشْيَة المتَهَدِّدِ
وإنِّي متى أوْعدتُه أو وعدتهلَمْخلِفُ إيْعادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

الرابعة عشرة: قوله تعالىٰ: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي أجابهم. قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى ٱستجاب لهم. وقال جعفر الصَّادق: من حَزَبَه أمرٌ فقال خمسَ مرّات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك؟ قال: إقرءوا إن شئتم { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } ـ إلى قوله: { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }.

الخامسة عشرة: قوله تعالىٰ: { أَنِّي } أي أَنِّي؛ وقرأ عيسى بن عمر «إني» بكسر الهمزة، أي فقال: إني. وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أُم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالىٰ: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } الآية. وأخرجه الترمذي. ودخلت «من» للتأكيد؛ لأنّ قبلها حرف نفي. وقال الكوفيون؛ هي للتفسير ولا يجوز حذفها؛ لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلاَّ به، وإنما تحذف إذا كانت تأكيداً للجحد. { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } ابتداء وخبر، أي دِينكم واحد. وقيل: بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشِبهِ ذلك. وقال الضحّاك: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة؛ نظيرها قوله عزّ وجلّ: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } } [التوبة: 71]. ويُقال: فلان مِنِّي، أي على مذهبي وخلقي.

السادسة عشرة: قوله تعالىٰ: { فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } إبتداء وخبر، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة. { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } في طاعة الله عزّ وجلّ. { وَقَاتَلُواْ } أي وقاتلوا أعدائي. { وَقُتِلُواْ } أي في سبيلي. وقرأ ٱبن كثير وٱبن عامر: «وقاتلوا وقُتِّلوا» على التكثير. وقرأ الأعمش «وقتِلوا وقاتلوا» لأن الواو لا تدل على أن الثاني بعد الأوّل. وقيل: في الكلام إضمار قد، أي قتِلوا وقد قاتلوا؛ ومنه قول الشاعر:

تَصَابَـى وَأمْسَى عَـلاَهُ الكِبَـرْ

أي وقد علاه الكبر. وقيل: أي وقد قاتل من بَقِيَ منهم؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتل بعضهم. وقال ٱمرؤ القيس:

فَـإنْ تَقْتُلُونَـا نُقَتِّلْـكُمُ

وقرأ عمر بن عبد العزيز: «وَقَتَلُوا وقُتِلُوا» خفيفة بغير ألف. { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي لأسترنّها عليهم في الآخرة، فلا أوبِّخهم بها ولا أُعاقبهم عليها. { ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ } مصدر مؤكد عند البصريين؛ لأن معنى { لأدخِلنهم جناتٍ تجرِي مِن تحتها الأنهار } لأثيبنّهم ثواباً. الكسائي: ٱنتصب على القطع. الفرّاء: على التفسير. { وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ } أي حسن الجزاء، وهو ما يرجِع على العامِل من جراء عمله؛ من ثاب يثوب.

السابعة عشرة: قوله تعالىٰ: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } قيل؛ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد الأُمّة. وقيل: للجميع. وذلك أن المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع؛ فنزلت هذه الآية. أي لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم. { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } أي تقلبهم متاع قليل. وقرأ يعقوب «يَغُرَّنْكَ» ساكنة النون؛ وأنشد:

لاَ يَغُرّنْك عِشَاءٌ ساكنٍقد يُوَافِي بِالمَنِيَّاتِ السّحَرْ

ونظير هذه الآية قوله تعالىٰ: { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ } } [غافر: 4]. والمتاع: ما يعجَّل الانتفاع به؛ وسمّاه قليلاً لأنه فَانٍ، وكل فانٍ وإن كان كثيراً فهو قليل. وفي صحيح الترمذي عن المستوردِ الفِهري قال؛ سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليَمّ، فلينظر بماذا يرجع" . قيل: «يرجع» بالياء والتاء. { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي بئس ما مهَّدوا لأنفسهم بكفرهم، وما مهد الله لهم من النار.

الثامنة عشرة: في هذه الآية وأمثالها كقوله: { { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } [آل عمران: 178] الآية. { { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ والقلم: 45]. { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } } [المؤمنون: 55]. { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم: 44] دليل على أن الكفار غير مُنْعَم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوصُ من شَوائب الضررِ العاجلة والآجلة، ونعم الكفار مَشُوبَةٌ بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدّم بين يدي غيرهِ حلاوة من عسل فيها السُّمّ، فهو وإن استلذّ آكله لا يُقال: أُنعِم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعرِي. وذهب جماعة منهم سيف السنة ولِسان الأمة القاضي أبو بكر: إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا. قالوا: وأصل النَّعمة من النعمة بفتح النون، وهي لين العيش؛ ومنه قوله تعالىٰ: { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [الدخان: 27]. يُقال: دقيق ناعم، إذا بُولِغ في طحنهِ وأُجيد سحقه. وهذا هو الصحيح، والدليل عليه أن الله تعالىٰ أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلّفين فقال: { { فَٱذْكُرُوۤاْ آلآءَ ٱللَّهِ } } [الأعراف: 74]. { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } [البقرة: 172] والشكر لا يكون إلاَّ على نعمة. وقال: { { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص: 77] وهذا خطاب لقارون. وقال: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } } [النحل: 112] الآية. فنبّه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نِعمة دُنيْاوِية فجحدوها. وقال: { { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } [النحل: 83] وقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } } [فاطر: 3]. وهذا عامّ في الكفار وغيرهم. فأما إذا قدّم لغيره طعاماً فيه سمّ فقد رفق به في الحال؛ إذْ لم يجرعه السمَّ بحتاً، بل دَسّه في الحلاوة، فلا يستبعد أن يُقال: قد أنعم عليه، وإذا ثبت هذا فالنِّعَم ضربان: نِعَمُ نفْع وَنِعَمُ دفْع؛ فنِعم النفعِ ما وصل إليهم من فنون اللذات، ونِعم الدفعِ ما صرف عنهم من أنواع الآفات. فعلى هذا قد أنعم على الكفار نِعم الدفع قولاً واحداً؛ وهو ما زُوِيَ عنهم من الآلام والأسقام، ولا خلاف بينهم في أنه لم يُنعم عليهم نَعمة دِينيه. والحمد لله.

التاسعة عشرة: قوله تعالىٰ: { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ } استدارك بعد كلام تقدّم فيه معنى النفي؛ لأن معنى ما تقدّم ليس لهم في تقلُّبِهم في البلاد كبير الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخُلْد الدائِم. فموضع «لكِن» رفع بالابتداء. وقرأ يزيد بن القعقاع «لكِن» بتشديد النون.

الموفية عشرين: قوله تعالىٰ: { نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } نُزُلاً مثل ثواباً عند البصريين، وعند الكِسائي يكون مصدراً. الفراء: هو مفسر. وقرأ الحسن والنخعِي { نُزُلاً } بتخفيف الزاي استِثقالاً لا لِضمتين، وثقّله الباقون. والنّزُولُ: ما يُهيأ للنزّيل. والنزيل الضيف. قال الشاعر:

نَزِيلُ القوْم أعظمُهُم حقوقاًوحَقُّ اللَّهِ في حقِّ النزيلِ

والجمع الأنزال. وحظ نزِيل: مجتمِعٌ. والنزل: أيضاً الرّيْع؛ يُقال؛ طعام كثير النزْل والنزُل.

الحادية والعشرون: قلت؛ ولعل النزل ـ والله أعلم ـ. ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثَوْبَان مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم "في قصة الحِبَرْ الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدّل الأرضُ غير الأرضِ والسَّمٰواتُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هم في الظلمة دون الجِسر قال: فمن أوّل الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجِرين قال اليهودي: فما تُحفَتُهم حين يدخلون الجنة؟ قال زيادة كبِد النون قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ فقال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عينٍ فيها تسمى سلسبِيلاً" وذكر الحديث. قال أهل اللغة: والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه. والطُّرَف محاسِنه وملاطِفه، وهذا مطابِق لما ذكرناه في النزل، والله أعلم. وزِيادة الكَبِد: قطعة منه كالأصبع. قال الهروِيّ: { نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي ثواباً. وقيل رِزقاً. { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أي مما يتقلب به الكفار في الدنيا. والله أعلم.

الثانية والعشرون: قوله تعالىٰ: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } الآية. قال جابر بن عبدِ الله وأنس وابن عباسٍ وقتادة والحسن: نزلت في النجاشِيّ، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السَّلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فصلّوا على أخيكم النجاشي" ؛ فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلّي على عِلْج من عُلُوج الحبشَة؛ فأنزل الله تعالىٰ: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ }. قال الضحاك: { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } القرآن. { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } التوراة والإنجيل. وفي التنزيل: { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [القصص: 54]. وفي صحيح مسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين ـ فذكر ـ رجل من أهل الكتاب آمن بِنبيه ثم أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم فآمن به وٱتبعه وصدّقه فله أجران" وذكر الحديث. وقد تقدّم في «البقرة»الصّلاة عليه وما للعلماء في الصَّلاة على الميت الغائب، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد وابن جُريجْ وابن زيد؛ نزلت في مؤمِنِي أهل الكتاب، وهذا عام والنجاشِيّ واحد منهم،. وٱسمه أصْحَمَة، وهو بالعربية عطِية. و { خَاشِعِينَ } أذِلّة، ونصب على الحال من المضمر الذي في «يؤمِن». وقيل: من الضمير في «إلَيْهِمْ» أو في «إليكم». وما في الآية بيِّنٌ، وقد تقدّم.

الثالثة والعشرون: قوله تعالىٰ: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ } الآية. ختم تعالىٰ السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة؛ فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس، وقد تقدّم في «البقرة» بيانه. وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء؛ قاله زيد بن أسلم.وقال الحسن: على الصلوات الخمس. وقيل: إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو يَنْزَع. وقال عطاء والقرظي: صابروا الوَعْد الذي وُعِدتم. أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج؛ قال صلى الله عليه وسلم: "انتظار الفرج بالصبر عبادة" . وٱختار هذا القول أبو عمررحمه الله . والأوّل قول الجمهور؛ ومنه قول عنترة:

فلم أرَ حَيّاً صابروا مثل صبرِناولا كافَحُوا مثلَ الَّذِينَ نُكَافِحُ

فقوله: «صابروا مثل صبرنا» أي صابرون العدوّ في الحرب ولم يبدُ منهم جُبْن ولا خَوَر. والمكافحة: المواجهة والمقابلة في الحرب؛ ولذلك اختلفوا في معنى قوله { وَرَابِطُواْ } فقال جمهور الأمة: رَابِطُوا أعداءكم بالخيل، أي ٱرتبطواها كما يرتبطها أعداءكم؛ ومنه قوله تعالىٰ: { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ }. وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجرّاح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخَوّف منهم؛ فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مُنَزّلِ شدّةٍ يجعل الله له بعدها فَرَجاً، وإنه لن يغلِب عسر يُسرين، وإنّ الله تعالى يقول في كتابه { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. وقال أبو سلمة بن عبد الرّحمٰن؛ هذه الآية في ٱنتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ يُرابط فيه؛ رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه. وٱحتج أبو سلمة بقوله عليه السَّلام: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة فذلكم الرباط" ثلاثاً؛ رواه مالك. قال ٱبن عطية؛ والقول الصحيح هو أن الرباط (هو) الملازمة في سبيل الله. أصلها من ربط الخيل، ثم سُمِّي كل ملازم لِثغَرْ من ثُغُور الإسلام مرابطاً، فارِساً كان أو راجلاً. واللفظ مأخوذ من الربط. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «فذلكم الرّباط» إنما هو تَشْبِيهٌ بالرباط في سبيل الله. والرّباط اللغويّ هو الأول؛ وهذا كقوله: "ليس الشديد بالصُّرَعة" وقوله: "ليس المسكين بهذا الطواف" إلى غير ذلك.

قلت: قوله: «والرباط اللغوي هو الأوّل» ليس بمسلّم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمّة اللغة وثقاتها قد قال: الرِّبَاط ملازمة الثغور، ومواظبة الصَّلاة أيضًا، فقد حصل أن ٱنتظار الصَّلاة رِباط لغويّ حقيقة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يُقال: ماءٌ مترابطٌ أي دائم لا يَنْزَحُ؛ حكاه ٱبن فارس، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه. فإن المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. ومن أعظمها وأهمها ٱرتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله: { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } على ما يأتي. وٱرتباط النفس على الصلوات كما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ رواه أبو هريرة وجابر وعليّ، ولا عِطْرَ بعد عَرُوسٍ.

الرابعة والعشرون: المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يَشْخَص إلى ثغْر من الثُّغور ليرابط فيه مدةً مَا؛ قاله محمد بن الموّاز (ورواه). وأما سُكّان الثّغور دائماً بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حُماة فليسوا بمرابطين. قاله ٱبن عطية. وقال ٱبن خُوَيْزِمَنْدَاد: وللرِّباط حالتان: حالة يكون الثَّغر مأموناً مَنيعاً يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهلَ والولدَ لئلا يظهر العدوّ فيَسبِي ويسترِقّ، والله أعلم.

الخامسة والعشرون ـ جاء في فضل الرِّباط أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاريّ عن سهل بن سَعد السَّاعِديّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رِباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ عند الله مِن الدنيا وما فيها" . وفي صحيح مُسلم عن سَلمان قال؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهر وقيامِه وإن مات جَرَى عليه عملُه الذي كان يعمله وأُجْرِي عليه رزقه وأمِن الفُتّان" . وروى أبو داود في سُننه عن فَضَالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلّ مَيِّت يُختم على عمله إلاَّ المرابط فإنه يَنْمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فَتّان القبر" . وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت. كما جاء في حديث العَلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات الإنسان ٱنقطع عنه عملُه إلاَّ من ثلاثة إلاَّ من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له" وهو حديث صحيح ٱنفرد بإخراجه مسلم؛ فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهابِ العلم وموتِ الولد. والرباط يُضاعف أجرهُ إلى يوم القيامة؛ لأنه لا معنى للنّماء إلاَّ المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضلٌ دائم من الله تعالىٰ إلى يوم القيامة. وهذا لأن أعمال البِرّ كلّها لا يُتمكنّ منها إلاَّ بالسلامة من العدوّ والتحرُّز منه بحراسة بَيْضَة الدِّين وإقامة شعائر الإسلام. وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة. خرّجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات مرابطاً في سبيل الله أَجْرى عليه أجرَ عملهِ الصالِح الذي كان يعمل وأَجْرَى عليه رزقه وأُمِنَ من الفُتّان وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع" . وفي هذا الحديث قيدٌ ثان وهو الموت حالة الرّباط، والله أعلم. ورُوي عن عثمان بن عفّان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامِها وقيامها" . ورُوي عن أُبيّ بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَرباط يوم في سبيل الله من وراء عَورة المسلمين مُحتسباً من غير شهر رمضان أعظمُ أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباطُ يومٍ في سبيل الله من وراء عورة المسلمين مُحتسِباً من شهر رمضان أفضلُ عند الله وأعظم أجراً ـ أراه قال: ـ من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن ردّه الله إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويُجرَي له أجرُ الرّباط إلى يوم القيامة" . ودلّ هذا الحديث على أن رِباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدّائم وإن لم يمت مرابطاً، والله أعلم. وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حَرْس ليلة في سبيل الله أفضلُ من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنةٍ السّنة ثلاثمائة يوم (وستون يوماً) واليوم كألف سنة" .

قلت: وجاء في ٱنتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة أنه رِباط؛ فقد يحصل لِمُنْتظِرِ الصلواتِ ذلك الفضل إن شاء الله تعالىٰ. وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدّثنا سليمان بن أحمد قال حدّثنا علي بن عبد العزيز قال حدّثنا حَجّاج بن المِنْهال وحدّثنا أبو بكر بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدّثني أبي قال حدّثني الحسن بن موسىٰ قال حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت البُنَانِيّ عن أبي أيوب الأزدي عن نَوْفِ البِكَالِيّ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى ذات ليلةٍ المغرب فصلّينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصَّلاة العشاء، فجاء وقد حضره الناس رافعاً أصبعَه وقد عقد تِسعاً وعشرين يُشير بالسبّابة إلى السماء فَحَسَر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول: "أبشروا مَعشرَ المسلمين هذا ربُّكم قد فتح باباً من أبواب السماء يُباهي بكم الملائكةَ يقول يا ملائكتي ٱنظروا إلى عبادي هؤلاء قضَوْا فريضةً وهم ينتظرون أُخرىٰ" . ورواه حَمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن مُطرِّف بن عبد الله: أن نَوْفا وعبد الله بن عمرو اجتمعا فحدّث نَوْفٌ عن التوراة وحدّث عبد الله بن عمرو بهذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى. { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لتكونوا على رجاء من الفلاح. وقيل: لعل بمعنى لِكي. والفلاح البقاء، وقد مضىٰ هذا كله في «البقرة» مستوفى، والحمد لله.

نجز تفسير سورة آل عمران من (جامع أحكام القرآن والمبيّن لما تضمن من السنة وآي الفرقان) بحمد الله وعونه.