التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٦
-آل عمران

الجامع لاحكام القرآن

قال عليّ رضي الله عنه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهمّ مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكنّ عبد عقِب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة. القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعدته من كل عدوّ ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" "وقال معاذ بن جبل: اُحتبست عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً فلم أصلّ معه الجمعة فقال: يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله، كان ليوحنا بن بارِياً اليهوديّ عليّ أوقِيّة من تِبْر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟ قلت نعم. قال: قل كل يوم قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ـ إلى قوله ـ بِغَيْرِ حِسَابٍ رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء ٱقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأدّاه الله عنك" . خرّجه أبو نعيم الحافظ، أيضاً عن عطاء الخراسانيّ أن معاذ بن جبل قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم آياتٍ من القرآن؛ أو كلماتٍ ـ ما في الأرض مسلم يدعو بهنّ وهو مكروب أو غارم أو ذو ديْن إلا قضى الله عنه وفرّج همه، ٱحتبست عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فذكره. غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ. وقال ٱبن عباس وأنس بن مالك: لما ٱفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أُمّته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والرومٰ هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمِع في ملك فارس والروم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله؛ وذلك أن هذه الأوصاف تبيِّن لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها. قال ٱبن إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وأن عيسى صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى أعطاه آياتٍ تدل على نبوّته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء؛ من قوله: { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ }. وقوله: { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 27] فلو كان عيسى إلٰهاً كان هذا إليه؛ فكان في ذلك ٱعتبار وآية بينة.

قوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُمَّ } ٱختلف النحويون في تركيب لفظة «اللهم» بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة، وأنها منادى؛ وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى:

كدعوة من أبي رَبَاحٍيسمعها اللَّهُمَّ الكُبَار

قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا أللَّه، فلما ٱستعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلوا بدله هذه الميم المشدّدة فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضاً من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفرّاء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا ألله أُمُّنا بخير؛ فحذف وخلط الكلمتين، وأنّ الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أُمُّنَا لما حذفت الهمزة ٱنتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه. قال الزجاج: محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في ٱسم الله ضمة أُمّ، هذا إلحاد في ٱسم الله تعالى. قال ٱبن عطية: وهذا غلوّ من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا أَللَّهُ أُمّ، ولا تقول العرب يا اللَّهُمّ. وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على «اللهم» وأنشدوا على ذلك قول الراجِز:

غفــرتَ أو عــذّبت يــا اللّهمــا

آخر:

وما عليكِ أن تقولي كلّماسبّحْتِ أو هلّلتِ يا اللهُمّ ما
اردُدْ علينا شيخَنا مسلَّمافإننا من خيره لن نُعْدَما

آخر:

إني إذا ما حَدَثٌ أَلَمَّاأقول يا اللّهُمّ يا اللّهُمّا

قالوا: فلو كان الميم عوضاً من حرف النداء لما ٱجتمعا. قال الزجاج: وهذا شاذٌّ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع دَيْوان العرب؛ وقد ورد مثله في قوله:

هما نَفَثا في فيّ من فَمَوَيْهِماعلى النّابِح العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ

قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخفَّفة في فَم وٱبْنُم، وأما ميم مشدّدة فلا تزاد. وقال بعض النحويين: ما قاله الكوفيون خطأ؛ لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال: «اللهم» ويُقتصر عليه لأنه معه دعاء. وأيضاً فقد تقول: أنت اللهم الرزّاق. فلو كان كما ٱدّعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر. قال النّضْر بن شُمَيْل: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها. وقال الحسن: اللهم تجمع الدعاء.

قوله تعالى: { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } قال قتادة: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن يعطِي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمّته؛ فعلّمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء. وقد تقدّم معناه. و «مالك» منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان؛ ومثله قوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الزمر: 46] ولا يجوز عنده أن يوصف اللّهمّ؛ لأنه قد ضمت إليه الميم. وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السريّ الزجاج فقالا: «مالك» في الإعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك «فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ». قال أبو عليّ؛ هو مذهب أبي العباس المبرد؛ وما قاله سيبويه أصْوَب وأبْيَن؛ وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حدّ «اللهم» لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف؛ نحو غَاقْ وما أشبهه. وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضِع. فلما ضُمّ هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت؛ نحو حَيّهل فلم يوصف. و { ٱلْمُلْكِ } هنا النبوّة؛ عن مجاهد. وقيل، الغلَبة. وقيل: المال والعبيد. الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا. وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة. ومعنى { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ } أي الإيمان والإسلام. { مَن تَشَآءُ } أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بدّ فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه:

ألا هل لهذا الدّهر من مُتَعَلّلعلى الناس مهما شاء بالناسِ يَفْعَلِ

قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. وقوله: { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } يقال: عز إذا علا وقهر وغلب؛ ومنه، { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } } [صۤ: 23]. { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } ذل يذِل ذُلاّ (إذا غلب وعلا وقهر). قال طرفة:

بطيءٍ عن الجُلّي سريعٍ إلى الخَنَاذليلٍ بأَجْماع الرجال مُلَهَّدِ

{ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } أي بيدك الخير والشر فحذف؛ كما قال: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81]. وقيل: خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله. قال النقاش: بيدك الخير، أي النصر والغنيمة. وقال أهْل الإشارات. كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس يوم بدر، والفقراء صُهَيْب وبِلال وخَبّاب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الإيمان { قُلِ اللَّهُمّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } تقيم الرسولَ يتيمَ أبي طالب على رأس الرسِّ حتى ينادِي أبدانا قد ٱنقلبت إلى القلِيب: يا عُتْبَة، يا شَيْبَة تعِز من تشاء وتُذِلّ من تشاء. أي صُهَيْب، أي بِلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم. بيدك الخير ما مَنْعُكم مِن عَجْز { إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ } إنْعامُ الحقّ عامٌّ يتولى من يشاء.