التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٩
-الأحزاب

الجامع لاحكام القرآن

يعني غزوة الخَنْدق والأحزاب وبني قُرَيظة، وكانت حالاً شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة، وتضمّنت أحكاماً كثيرة وآيات باهرات عزيزة، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل:

الأولى: اختلف في أيّ سنة كانت؛ فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالكرحمه الله : كانت وقعة الخندق سنة أربع، وهي وبنو قُريظة في يوم واحد، وبين بني قريظة والنَّضير أربع سنين. قال ابن وهب وسمعت مالكاً يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة، وذلك قوله تعالى: { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ }. قال: ذلك يوم الخندق، جاءت قريش من هاهنا واليهود من هاهنا والنَّجدية من هاهنا. يريد مالك: إن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغَطَفان. وكان سببها: أن نفراً من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق وسلام بن أبي الحُقَيق وسلام بن مِشْكم وحُيَيّ بن أخْطب النضرِيّون وهَوْذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، هم الذين حزّبوا الأحزاب وألبّوا وجمعوا، خرجوا في نفر من بني النَّضير ونَفَر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك؛ فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غَطَفَان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم؛ فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غَطَفان وقائدهم عُيينة بن حصن بن حُذيفة بن بدر الفَزَاريّ على فَزارة، والحارث ابن عوف المُرِّي على بني مُرّة، ومسعود بن رُخَيلة على أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه. وقال المهاجرون يومئذٍ: سلمان منا. وقال الأنصار: سلمان منا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منّا أهل البيت" . وكان الخندق أوّلَ مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ حر. فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا؛ فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسلّلْون لِواذاً فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره. وكان مَن فرغ من المسلمين من حصّته عاد إلى غيره، حتى كمل الخندق. وكانت فيه آيات بيّنات وعلامات للنبوّات.

قلت: ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي:

الثانية: مشاورة السلطان أصحابَه وخاصّته في أمر القتال؛ وقد مضى ذلك في «آل عمران، والنمل». وفيه التحصّن من العدوّ بما أمكن من الأسباب واستعمالها؛ وقد مضى ذلك في غير موضع. وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوماً على الناس؛ فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يدٌ على مَن سواهم؛ وفي البخاري ومسلم عن البَرَاء بن عازِب قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنّي الغبارُ جِلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجِز بكلمات ابن رَواحة ويقول:

اللَّهُمَّ لولا أنت ما اهتديناولا تصدّقنا ولا صَلّينا
فأنزِلنْ سكِينةً عَلَيْنَاوثَبّت الأقدام إن لاَقَيْنَا

وأما ما كان فيه من الآيات وهي:

الثالثة: فروى النسائي عن أبي سكينة رجلٍ من المحرَّرين عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعْول ووضع ردائه ناحية الخندق وقال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً } [الأنعام: 115] الآية؛ فَنَدَرَ ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فَبَرَق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرْقَةٌ، ثم ضرب الثانية وقال: وَتَمَّتْ الآية؛ فَنَدَرَ الثلث الآخر؛ فبرقت برقة فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة وقال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً } [الأنعام: 115] الآية؛ فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس. قال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حين ضربت! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ذلك يا سلمان؟ فقال: أيْ والذي بعثك بالحق يا رسول الله! قال: فإني حين ضربت الضربة الأولى رُفعت لي مدائن كِسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعينيّ ـ قال له من حضره من أصحابه؛ يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها علينا ويغنِّمَنا ذراريهم ويخرّب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ثم ضربتُ الضربة الثانية فرُفعت لي مدائن قَيْصر وما حولها حتى رأيتها بعينيّ ـ قالوا: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ثم ضربتُ الضربة الثالثة فرُفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعينيّ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: دعوا الحبشة ما وَدَعوكم واتركوا الترك ما تركوكم" . وخرجه أيضاً عن البَرَاء قال: "لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفِر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المِعْول وقال: باسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال: الله أكبر أُعْطيت مفاتيح الشام واللَّهِ إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا قال: ثم ضرب أخرى وقال: باسم الله فكسر ثلثاً آخر ثم قال: الله أكبر أُعطِيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض. ثم ضرب الثالثة وقال: باسم الله فقطع الحجر وقال: الله أكبر أُعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء" . صححه أبو محمد عبد الحق.

الرابعة: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهلِ تِهامة، وأقبلت غَطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أُحُد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سَلْع في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل على المدينة ابنَ أُمّ مَكْتوم ـ في قول ابن شهاب ـ وخرج عدوّ الله حُيَيّ بن أخطْب النضري حتى أتى كعب بن أسد القُرَظِيّ، وكان صاحبَ عقد بني قريظة ورئيسَهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاقده وعاهده؛ فلما سمع كعب بن أسد حُيَيّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له؛ فقال له: افتح لي يا أخي؛ فقال له: لا أفتح لك، فإنك رجل مشؤوم، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، فلست بناقض ما بيني وبينه. فقال حُيَيّ: افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك؛ فقال: لا أفعل؛ فقال: إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك؛ فغضب كعب وفتح له؛ فقال: يا كعب! إنما جئتك بعزّ الدهر، جئتك بقريش وسادتها، وغَطَفان وقادتها؛ قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمداً ومن معه؛ فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه! ويحك يا حُيَيّ؟ دَعْنِي فلستُ بفاعل ما تدعوني إليه؛ فلم يزل حُيَيّ بكَعْب يَعِده ويَغُرّه حتى رجع إليه وعاقده على خِذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم، وقال له حُيَيّ بن أخطب: إن انصرفت قريش وغَطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود. فلما انتهى خبر كعب وحُيَيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عُبادة وهو سيد الخزرج، وسيّد الأوْسِ سعد بن معاذ، وبعث معهما عبد الله بن رَواحة وخَوّات بن جُبير، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا إلى بني قُرَيظة فإن كان ما قيل لنا حقاً فالحْنوا لنا لَحْناً ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس. وإن كان كذباً فاجهروا به للناس" فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد له عندنا، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه؛ وكانت فيه حدّة فقال له سعد بن عُبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا: عَضَل والقَارَة ـ يعرّضان بغدر عَضَل والقارة بأصحاب الرَّجيعِ حُبيب وأصحابه ـ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبشروا يا معشر المسلمين" وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف، وأتى المسلمين عدوُّهم من فوقهم؛ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب، حتى ظنوا بالله الظنونا؛ وأظهر المنافقون كثيراً مما كانوا يسرّون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها؛ وممن قال ذلك: أوْس بن قيظي. ومنهم من قال: يَعِدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقَيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك: مُعَتّب بن قُشير أحد بني عمرو ابن عوف. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر لم يكن بينهم حَرْب إلا الرمي بالنَّبْل والحصى. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتدّ على المسلمين البلاء بعث إلى عُيَيْنة بن حِصن الفَزَاري، وإلى الحارث بن عوف المرِّي، وهما قائدا غَطَفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غَطفان ويخذلا قريشاً ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقداً؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضِيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبّه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: "بل أمر أصنعه لكم، واللَّهِ ما أصنعه إلا أنّي قد رأيت العرب قد رمتكم عن قَوْس واحدة" فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، واللَّهِ لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمِعوا قَطّ أن ينالوا منا ثمرة إلا شِراء أو قِرًى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: "أنتم وذاك" . وقال لعيينة والحارث: "انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف" . وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.

الخامسة: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم؛ إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد وُدّ العامريّ من بني عامر بن لُوَيّ، وعِكرمة بن أبي جهل، وهُبَيرة بن أبي وهب، وضِرار بن الخطاب الفهريّ، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سَلْع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثُّغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ودّ قد أثبتته الجراح يوم بَدْر فلم يشهد أُحُداً، وأراد يوم الخندق أن يُري مكانُه فلما وقف هو وخيله؛ نادى: من يبارز؟ فبرز له عليّ بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تُدْعَى إلى إحدى خَلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له عليّ: وأنا والله أحبّ أن أقتلك. فحَمِى عمرو بن عبد وُدّ ونزل عن فرسه، فعقره وصار نحو عليّ، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النَّقْع حتى رُئِيَ عليّ على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابُه أنه قد قتله عليّ اقتحموا بخيلهم الثُّغْرة منهزمين هاربين. وقال عليّ رضي الله عنه في ذلك:

نصر الحجارةَ من سفاهة رأيهِونصرتُ دِينَ محمد بِضراب
نازلته فتركته متجدِّلاكالجِذْع بين دَكادكٍ ورَوَابي
وعففتُ عن أثوابه ولو أننيكنت المقطَّرَ بَزَّنِي أثوابي
لا تحسِبُنّ الله خاذلَ دينهونبيِّه يا معشر الأحزاب

قال ابن هشام: أكثر أهل العلم بالسير يشك فيها لعليّ. قال ابن هشام: وألقى عِكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذٍ وهو منهزم عن عمرو؛ فقال حسان بن ثابت في ذلك:

فرّ وألقَى لنا رُمْحَهلعلّك عِكرِمَ لم تَفْعلِ
وولّيت تَعْدُو كعَدْوِ الظَّلِــيم ما إن تجور عن المَعْدِلِ
ولم تُلق ظهرك مستأنساًكأن قَفاك قَفَا فُرْعُل

قال ابن هشام: فرعل صغير الضباع. وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة، وأُمُّ سعد بن معاذ معها، وعلى سعد درع مُقَلِّصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربته وهو يقول:

لَبِّثْ قليلاً يلحق الهَيْجَا جَمَلْلا بأس بالموت إذا كان الأجَلْ

ورُمي يومئذٍ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل. واختلف فيمن رماه؛ فقيل: رماه حِبّان بن قيس ابن العَرِقة، أحد بني عامر بن لؤيّ، فلما أصابه قال له: خذها وأنا ابن العَرِقة. فقال له سعد؛ عرّق الله وجهك في النار. وقيل: إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان. وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجُشَمِيّ، حليف بني مخزوم. ولحسان مع صفية بنت عبد المطلب خبر طريف يومئذٍ؛ ذكره ابن إسحاق وغيره.

قالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حِصن حسان بن ثابت، وحسان معنا في النساء والصبيان، والنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدوّ لا يستطيعون الانصراف إلينا، فإذا يهوديّ يدور، فقلت لحسان: انزل إليه فاقتله؛ فقال: ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبد المطلب! فأخذت عموداً ونزلت من الحصن فقتلته، فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فلم يمنعني من سَلَبه إلا أنه رجل. فقال: مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب! قال: فنزلت فسلبته. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السِّيَر وقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام، ولَهُجِيَ بذلك ابنه عبد الرحمن؛ فإنه كان كثيراً ما يهاجي الناس من شعراء العرب؛ مثل النجاشي وغيره.

السادسة: "وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعيّ فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمُرْني بما شئت؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد من غَطَفان فلو خرجتَ فخذّلت عنّا إن استطعت كان أحبّ إلينا من بقائك معنا فاخرج فإن الحرب خدعة" . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قُريظة ـ وكان ينادمهم في الجاهلية ـ فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم وِدّي إياكم، وخاصّة ما بيني وبينكم؛ قالوا: قل فلستَ عندنا بمتَّهَم؛ فقال لهم: إن قريشاً وغَطَفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشاً وغَطَفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نُهْزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحِقوا ببلادهم وخلّوْا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لهم: قد عرفتم وِدّي لكم معشرَ قريش، وفراقي محمداً، وقد بلغني أمرٌ أرى من الحق أن أبلِّغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عليّ؛ قالوا نفعل؛ قال: تعلمون أن معشر يهودَ، قد نَدِموا على ما كان من خذلانهم محمداً، وقد أرسلوا إليه: إنا قد نَدِمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغَطَفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غَطَفان فقال مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين، أرسل أبو سفيان إلى بني قُرَيظة عِكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مُقام، قد هلك الخُفّ والحافر، فاغدوا صبيحة غدٍ للقتال حتى نناجز محمداً؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما نال منّا مَن تعدّى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُناً؛ فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صَدَقنا واللَّهِ نعيم بن مسعود؛ فردّوا إليهم الرسل وقالوا: والله لا نعطيكم رهناً أبداً فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم. فقال بنو قريظة: صدق واللَّهِ نعيم بن مسعود. وخذل الله بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم رِيحاً عاصفاً في ليالٍ شديدة البرد؛ فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفَأ قدورهم.

السابعة: فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرّف كل امرىء جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا فلان. ثم قال أبو سفيان: ويلكم يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخُفّ وأخلفتنا بنو قُريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل؛ ووثب على جمله فما حلّ عقال يده إلا وهو قائم. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني، قال لي: "مُرّ إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدِث شيئاً" ـ لقتلته بسهم؛ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم، فوجدته قائماً يصلّي في مِرْطٍ لبعض نسائه مراجل ـ قال ابن هشام: المراجل ضرب من وَشْي اليمن ـ فأخبرته فحمِد الله.

قلت: وخبر حذيفة هذا مذكور في صحيح مسلم، وفيه آيات عظيمة، رواه جرير عن الأعمش "عن إبراهيم التيمِيّ عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتَلْت معه وأبلَيْت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك! لقد رأيتُنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقرّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألاَ رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه أحد. فقال: قم يا حذيفة فأتنا خبر القوم فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهم عليّ قال: فلما وَلّيت من عنده جعلت كأنما أمشي في حَمّام حتى أتيتهم؛ فرأيت أبا سفيان يَصْلِي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كَبِد القَوس فأردت أن أرْمِيَه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَذْعَرْهم عليّ ولو رميته لأصبته: فرجعت وأنا أمشي في مثل الحَمّام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغتُ قُرِرت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلّي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نَوْمَان" . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب، رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْيَة بن خليفة الكلبيّ، على بغلة عليها قطيفة ديباج فقال له: يا محمد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها. إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قُريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:

الثامنة: منادياً فنادى: لا يصلّيَنّ أحد العصر إلا في بني قُريظة؛ فتخوّف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قُريظة. وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنّف واحداً من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين. وقد مضى بيانه في «الأنبياء». وكان سعد بن معاذ إذْ أصابه السهم دعا ربه فقال: اللّهُم إن كنت أبقيْتَ من حرب قريش فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب أن أجاهدهم من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه. اللَّهُمَّ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تُمِتْني حتى تقرّ عيني في بني قُريظة. وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن سعد بن معاذ مَرّ بعائشة رضي الله عنها ونساءٍ معها في الأَطُم (فارع)، وعليه دِرع مُقَلِّصة مشمرّ الكُمّين، وبه أثر صفرة وهو يرتجز:

لَبِّثْ قليلاً يُدْرك الهَيْجَا جَمَلْلا بأس بالموت إذا حان الأَجَلْ

فقالت عائشة رضي الله عنها: لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه؛ فأصيب في أَكْحَله. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلاً أجمل من سعد ابن معاذ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصيب في أكحله ثم قال: اللهم إن كان حرب قُريظة لم يبق منه شيء فاقبضني إليك، وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه؛ فلما حُكّم في بني قُريظة تُوُفِّيَ؛ ففرح الناس وقالوا: نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته.

التاسعة: ولما خرج المسلمون إلى بني قُريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مَكْتوم، ونهض عليّ وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم، فسمعوا سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فانصرف عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعَرّض له. فقال له: "أظنك سمعت منهم شتمي. لو رأوني لكفُّوا عن ذلك" ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا. فقال لهم: "نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته" فقالوا: ما كنت جاهلاً يا محمد فلا تجهل علينا؛ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة. وعرض عليهم سيّدُهم كعب ثلاثَ خصال ليختاروا أيّها شاؤوا: إما أن يُسلموا ويتبعوا محمداً على ما جاء به فيسلَموا. قال: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوباً في كتابكم. وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا؛ فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم. وإما أن يبيّتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلاً. فقالوا له: أما الإسلام فلا نُسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدّى في السبت. ثم بعثوا إلى أبي لُبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوْس، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم، ـ وأشار بيده إلى حَلْقه ـ إنه الذبح إن فعلتم. ثم ندم أبو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمرٌ لا يستره الله عليه عن نبيّه صلى الله عليه وسلم. فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارِية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تَحُلّه لوقت كل صلاة. قال ابن عُيينة وغيره: فيه نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ } [الأنفال: 27] الآية. وأقسم ألاّ يدخل أرض بني قُريظة أبداً مكاناً أصاب فيه الذنب. فلما بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم مِن فعل أبي لُبابة قال: "أما إنه لو أتاني لاستغفرت له وأمّا إذْ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى" فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: { { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } [التوبة: 102] الآية. فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثب الأوْس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، وقد علمتَ أنهم حلفاؤنا، وقد أسعفت عبد الله بن أبَيّ بن سلول في بني النَّضِير حلفاء الخَزْرج، فلا يكن حظُّنا أوْكَس وأنقص عندك من حَظّ غيرنا، فهم موالينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأوس ألاَ ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ـ قالوا بلى. قال ـ: ـ فذلك إلى سعد بن معاذ" . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق. فحكم فيهم بأن تُقتل المقاتِلة، وتُسْبَى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة" . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم ـ زمن ابن إسحاق ـ فخندق بها خنادق، ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل يومئذٍ حييّ بن أخْطب وكعب بن أسد، وكانا رأس القوم، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وكان على حُيَيّ حُلّة فُقّاحِيّة قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة لئلا يُسْلبَها. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال: أمَا والله ما لُمتُ نفسي في عداوتك.

ولـكـنـه مـن يـخـذل الله يـخـذل

ثم قال: يا أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب وقَدَر ومَلْحمة كُتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بُنانة امرأة الحكم القُرَظِيّ التي طرحت الرّحَى على خَلاّد بن سُويد فقتلته. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم يُنبت. وكان عطية القُرَظِيّ ممن لم ينبت، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور في الصحابة. ووَهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شمّاس ولدَ الزّبِير بن باطا فاستحياهم؛ منهم عبد الرحمن بن الزّبير أسلم وله صحبة. وَوَهَب أيضاً عليه السلام رفاعة بن سَمَوْءل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سلَيط بن قيس من بني النجار، وكانت قد صلّت إلى القبلتين؛ فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: أتى ثابت بن قيس بن شمّاس إلى ابن باطا ـ وكانت له عنده يد ـ وقال: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي، قال: ذلك يفعل الكريم بالكريم، ثم قال: وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ قال: فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأعطاه أهله وولده؛ فأتى فأعلمه فقال: كيف يعيش رجل لا مال له؟ فأتى ثابت النبيّ صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله، فرجع إليه فأخبره؛ قال: ما فعل ابن أبي الحُقَيق الذي كأن وجهه مرآة صينية؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قُريظة؟ قال: قتلوا. قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا. قال: برئت ذمتك، ولن أصبّ فيها دلواً أبداً، يعني النخل، فألحقني بهم، فأبى أن يقتله فقتله غيره. واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بُعاث فجز ناصيته وأطلقه.

العاشرة: وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قُريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً. وقد قيل: للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذٍ ستة وثلاثين فرساً. ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سَبْيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة أحد بني عمرو بن قُريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن غَنيمة قريظة هي أوّل غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأوّل غنيمة جعل فيها الخُمس. وقد تقدّم أن أوّل ذلك كان في بعث عبد الله بن جَحْش؛ فالله أعلم. قال: أبو عمر: وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أوّلَ غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: { { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [الأنفال: 41] الآية. وكان عبد الله بن جَحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله؛ وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.

وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأوّل ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة. فلما تمّ أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات رضي الله عنه. وهو الذي أتى الحديث فيه: "اهتَزّ لموته عَرْشُ الرّحمن" يعني سكان العرش من الملائكة فرِحوا بقدوم روحه واهتزُّوا له. وقال ابن القاسم عن مالك: حدّثني يحيـى بن سعيد قال: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملَك، ما نزلوا إلى الأرض قبلها. قال مالك: ولم يستشهد يوم الخَنْدق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة.

قلت: الذي اسْتُشْهِد يوم الخندق من المسلمين ستةُ نفرٍ فيما ذكر أهل العلم بالسِّيَر: سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبد الأشهل، وأنس بن أوْس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، وكلاهما أيضاً من بني عبد الأشهل، والطّفيل بن النعمان، وثعلبة بن غَنَمَة، وكلاهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار، أصابه سَهْمٌ غَرْبٌ فقتله، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار ثلاثة: منبّه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم مات منه بمكة. وقد قيل: إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق. ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، اقتحم الخندق فتورّط فيه فقتِل، وغلب المسلمون على جسده؛ "فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فقال: لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه فخلّى بينهم وبينه" . وعمرو بن (عبد) ودّ الذي قتله عليٌّ مبارزة، وقد تقدّم. واستشهد يوم قُريظة من المسلمين خَلاْد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج؛ طرحت عليه امرأةٌ من بني قُريظة رحى فقتلته. ومات في الحصار أبو سنان ابن مِحْصَن بن حُرْثان الأسدي، أخو عُكاشة بن مِحْصَن، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قُريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم. ولم يُصب غير هذين، ولم يغزُ كفارُ قريش المؤمنين بعد الخندق. وأسند الدارِمِيّ أبو محمد في مسنده: أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذِئب عن المَقْبُرِيّ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخُدْرِيّ عن أبيه قال: حُبسنا يوم الخندق حتى ذهب هَوِيّ من الليل حتى كفينا؛ وذلك قول الله عز وجل: { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [الأحزاب: 25] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام فصلّى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاّها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاّها، ثم أمره فأقام العشاء فصلاّها، وذلك قبل أن ينزل: { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239] خرّجه النسائي أيضاً. وقد مضت هذه المسألة في «طه». وقد ذكرنا في هذه الغَزاة أحكاماً كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر. ثم نرجع إلى أوّل الآي وهي تسع عشرة آية تضمّنت ما ذكرناه.

قوله تعالى: { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } يعني الأحزاب. { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } قال مجاهد: هي الصَّبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم. قال: والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذٍ. وقال عِكْرمة: قالت الجَنوب للشَّمال ليلة الأحزاب: انطلقي لنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت الشَّمال: إن مَحْوَةَ لا تسرِي بليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصَّبا. وروى سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالصَّبا وأهلِكت عادٌ بالدَّبور" . وكانت هذه الريح معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها. { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وقرىء بالياء؛ أي لم يرها المشركون. قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرُّعْب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر؛ حتى كان سيَّدُ كل خباء يقول: يا بني فلان هُلُمّ إليّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاءَ النّجاءَ؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب. { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وقرىء: «يعملون» بالياء على الخبر، وهي قراءة أبي عمرو. الباقون بالتاء؛ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدوّ.