التفاسير

< >
عرض

يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } نهي عن الغلوّ. والغلوّ التجاوز في الحدّ؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلوّا، وغلا بالجارية لحمُها وعظمُها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِداتِها؛ ويعنى بذلك فيما ذكره المفسرون غلوّ اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلوّ النصارى فيه حتى جعلوه رَبّاً؛ فالإفراط والتقصير كله سيئةٌ وكفرٌ؛ ولذلك قال مطرِّف بن عبد الله: الحسنة بين سيِّئتين؛ وقال الشاعر:

وأوِف ولا تسوِف حقَّك كلَّهوصافح فلم يستوفِ قَطُّ كريمُ
ولا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر وٱقتصدْكِلاَ طرَفيْ قصْدِ الأُمورِ ذَمِيمُ

وقال آخر:

عليك بأوساطِ الأُمور فإنهانَجاةٌ ولا تركَبْ ذَلولاً ولا صَعْبَا

وفي صحيح البخاريّ عنه عليه السلام: "لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى عيسى وقولوا عبدُ الله ورسولُه" .

قوله تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي لا تقولوا إن له شريكاً أو ٱبنا. ثم بيّن تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: "إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رُسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ"

وفيه ثلاث مسائل:

الأُولى ـ قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ } المسيح رفع بالابتداء؛ و «عِيسى» بدل منه وكذا «ٱبْنُ مَرْيَمَ». ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى: إنما المسيحُ ٱبنُ مريم. ودَلّ بقوله: «عِيسى ٱبن مريم» على أن من كان منسوباً بوالدته كيف يكون إلهاً، وحق الإله أن يكون قديماً لا مُحدَثا. ويكون «رسُولُ اللَّهِ» خبراً بعد خبر.

الثانية ـ لم يذكر الله عز وجل ٱمرأة وسمّاها بٱسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران؛ فإنه ذكر ٱسمها في نحوٍ من ثلاثين موضعاً لحكمة ذكرها بعض الأشياخ؛ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ، ولا يبتذلون أسماءهنّ؛ بل يكنون عن الزوجة بالعِرس والأهل والعِيال ونحو ذلك؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهنّ ولم يصونوا أسماءهنّ عن الذكر والتصريح بها؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالأُمُوّة والعبودية التي هي صفة لها؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها.

الثالثة ـ ٱعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوباً للأُم ٱستشعرت القلوب ما يجب عليها ٱعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأُم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله. والله أعلم.

قوله تعالى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي هو مكوّن بكلمة «كن» فكان بشراً من غير أب، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادراً عنه. وقيل: «كلِمته» بشارة الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام؛ وذلك قوله: { { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [آل عمران: 45]. وقيل: «الكلِمة» هٰهنا بمعنى الآية؛ قال الله تعالى: { { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا } [التحريم: 12] و { { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [لقمان: 27]. وكان لعيسى أربعة أسماء؛ المسيح وعيسى وكلمةٌ ورُوحٌ، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن. ومعنى «أَلْقَاها إلَى مَرْيَمَ» أمر بها مريم.

قوله تعالى: { وَرُوحٌ مِّنْهُ }. هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال؛ فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا؛ وعنه أجوبة ثمانية؛ الأوّل ـ قال أُبيّ بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق؛ ثم ردّها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الرّوح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام؛ فلهذا قال: { وَرُوحٌ مِّنْهُ }. وقيل: هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه؛ وهذا كقوله: { { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [الحج: 26] وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه؛ كما يقال في النعمة إنها من الله. وكان عيسى يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم. وقيل: يسمى روحاً بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحاً؛ لأنه ريح يخرج من الروح قال الشاعر ـ هو ذو الرمة ـ:

فقلتُ له ٱرْفَعْها إلَيكَ وأحْيِهابِرُوحِكَ وٱقْتَتْه لها قِيتَةً قَدْرا

وقد وَرَد أن جبريل نفخ في دِرْع مريم فحمَلتْ منه بإذن الله؛ وعلى هذا يكون «وَرُوحٌ مِنْهُ» معطوفاً على المضمر الذي هو ٱسم الله في «أَلْقَاهَا» التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم. وقيل: «رُوحٌ مِنْهُ» أي من خلقه؛ كما قال: { { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13] أي من خلقه. وقيل: «رُوحٌ مِنْهُ» أي رحمة منه؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن ٱتبعه؛ ومنه قوله تعالى: { { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22] أي برحمة، وقرىء { { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [الواقعة: 89]. وقيل: «وَرُوحٌ مِنْهُ» وبرهان منه؛ وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسِله، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلهاً. { وَلاَ تَقُولُواْ } آلهتنا { ثَلاَثَةٌ } عن الزجاج. قال ٱبن عباس: يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وٱبنه. وقال الفرّاء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة؛ كقوله تعالى: { { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ } [الكهف: 22]. قال أبو عليّ: التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة؛ فحذف المبتدأ والمضاف. والنصارى مع فِرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيمَ؛ فيجعلون كل أُقنُوم إلهاً ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبّرون عن الأقانيم بالأب والابن ورُوح القُدُس؛ فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أُصول الدين. ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته؛ وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأُمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتَدر عليها موصوفاً بالإلهية؛ فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلاً به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك؛ فإن ٱعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلاً به؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضاً؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الأُمور العظام، مثل قلبِ العصا ثعباناً، وفلْقِ البحر واليدِ البَيْضاء والمنّ والسلوى، وغير ذلك؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدّعونه هم أيضاً من ظهوره على يد عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن، ويكذبون من أتى به، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر. وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعد ما رُفع عيسى؛ يصلون إلى القِبلة؛ ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار؛ وكان له فرس يقال لها العقاب، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوّكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتاً فأقام فيه سنة لا يخرج ليلاً ولا نهاراً حتى تعلم الإنجيل؛ فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبِل توبتك فصدّقوه وأحبّوه، ثم مضى إلى بيت المقدس وٱستخلف عليهم نُسْطُورَا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله، ثم توجه إلى الرّوم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولا بجسم فتجسّم ولكنه ٱبن الله. وعلم رجلاً يقال له يعقوب ذلك؛ ثم دعا رجلاً يقال له الملك فقال له؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً وقال له: أنت خالِصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غداً أذبح نفسي وأتقرّب بها، فٱدع الناس إلى نِحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نِحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة، فٱقتتلوا وٱختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال؛ وٱلله أعلم. وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى. { { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [المائدة: 14] وسيأتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } «خيراً» منصوب عند سيبويه بإضمار فعل؛ كأنه قال: ٱئتوا خيراً لكم، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم؛ قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } لأنك إذا قلت: ٱئته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر؛ وأنشد:

فواعِدِيه سَرْحَتَيْ مالِكٍأَوِ الرُّبَا بينهما أسْهَلاَ

ومذهب أبي عبيدة: انتهوا يكن خيراً لكم؛ قال محمد بن يزيد: هذا خطأ؛ لأنه يضمر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب. ومذهب الفرّاء أنه نعت لمصدر محذوف؛ قال عليّ بن سليمان: هذا خطأ فاحش؛ لأنه يكون ٱلمعنى: ٱنتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم.

قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } هذا ٱبتداء وخبر؛ و «وَاحِدٌ» نعت له. ويجوز أن يكون «إله» بدلاً من ٱسم ٱللَّه عز وجل و «واحد» خبره؛ التقدير إنما المعبود واحد. { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي تنزيهاً عن أن يكون له ولد؛ فلما سقط «عن» كان «أن» في محل النصب بنزع الخافض؛ أي كيف يكون له ولد؟ وولد الرجل مُشْبِه له، ولا شبيه لله عز وجل. { لَّهُ وما فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } فلا شريك له، وعيسى ومريم من جملة ما في السَّموات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلهاً وهو مخلوق! وإن جاز ولد فليجزْ أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولداً له. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي لأوليائه؛ وقد تقدّم.