التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٨
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى ـ بيّن الله تعالى أن من لم يستحق شيئاً إرثاً وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيراً؛ والاعتذار إليهم إن كان عقاراً أو قليلاً لا يقبل الرّضخ. وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم؛ درهم يسبق مائة الف. فالآية على هذا القول مُحْكَمَةٌ؛ قاله ابن عباس. وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }. وقال سعيد بن المسيب: نسخها آية الميراث والوصية. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعِكرمة والضحاك. والأوّل أصح؛ فإنها مبيِّنة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن: ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ } قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال: إن ناساً يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نُسخت! ولكنها مما تهاون بها؛ هما واليِان: والٍ يرث وذلك الذي يرزق، ووالٍ لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أملك لك أن أعطيك. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يِصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث. قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير، والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضْخُ واجب على جهة الفرض، تُعطِي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعُون والثوب الخَلَق وما خفّ. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب؛ لأنه لو كان فرضاً لكان استحقاقاً في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع. وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتَضَرُون الذين يقسمون أموالهم بالوصية، لا الورثَةُ. وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد. فإذا أراد المريض أن يفرّق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألاّ يحرمه. وهذا ـ والله أعلم. يتنزل حيث كانت الوصية واجبة، ولم تنزل آية الميراث. والصحيح الأوّل وعليه المعوّل.

الثانية ـ فإذا كان الوارث صغيراً لا يتصرّف في ماله؛ فقالت طائفة: يعطى ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل: لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة: ليس لي شيء من هذا المال إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرّفتُه حقَّكم. فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يُوص الميت له بشيء؛ فإن أوصى يصرف له ما أوصى. ورأى عَبيدة ومحمد بن سِيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاماً يأكلونه؛ وفعَلاَ ذلك، ذبحا شاة من التركة، وقال عَبيدة: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. وروى قتادة عن يحي بن يَعمر قال: ثلاثٌ مُحْكَمات تركهّن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النور: 58] وقوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } [الحجرات: 13].

الثالثة ـ قوله تعالى: { مِنْهُ } الضمير عائد على معنى القسمة؛ إذْ هي بمعنى المال والميراث؛ لقوله تعالى: { { ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } [يوسف: 76] أي السقاية؛ لأن الصُّوَاع مذكّر. ومنه قوله عليه السلام: "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" فأعاد مذكراً على معنى الدعاء. وكذلك "قوله لسُويد بن طارق الجُعْفي حين سأله عن الخمر: إنه ليس بدواء ولكنه داء" فأعاد الضمير على معنى الشراب. ومثله كثير. يقال: قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه، والاسم القسمة مؤنثة؛ والقَسْم مصدر قسمت الشيء فانقسم، والموضع مَقْسِم مثل مَجلس، وتقسّمهم الدهر فتقسّموا، أي فرّقهم فتفرّقوا. والتقسيم التفريق. والله أعلم.

الرابعة قوله تعالى: { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال سعيد ابن جبير: يقال لهم خذّوا بورِك لكم. وقيل: قولوا مع الرّزق ودِدت أن لو كان أكثر من هذا. وقيل: لا حاجة مع الرزق إلى عذر، نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قولٍ جميل ونوع اعتذار.