التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
-غافر

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ } ذكر بعض المفسرين: أن اسم هذا الرجل حبيب. وقيل: شمعان بالشين المعجمة. قال السُّهيلي: وهو أصح ما قيل فيه. وفي تاريخ الطبريرحمه الله : اسمه خبرك. وقيل: حزقيل. ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء. الزمخشري: واسمه سمعان أو حبيب. وقيل: خربيل أو حزبيل. واختلف هل كان إسرائيلياً أو قبطياً فقال الحسن وغيره: كان قبطياً. ويقال: إنه كان ابن عم فرعون؛ قاله السدي. قال: وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام؛ ولهذا قال: «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى: { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يٰمُوسَىٰ } [القصص: 20] الآية. وهذا قول مقاتل. وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال: { إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ }.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصِّدِّيقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله والثالث أبو بكر الصِّدِّيق وهو أفضلهم" وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تعجب من مشركي قومك. وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون؛ فلهذا لم يتعرض له بسوء. وقيل: كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون؛ عن السّدي أيضاً. ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير، والتقدير: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون. فمن جعل الرجل قبطياً فـ«ـمِن» عنده متعلقة بمحذوف صفة لرجل؛ التقدير: وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون؛ أي من أهله وأقاربه. ومن جعله إسرائيليا فـ«ـمِن» متعلقة بـ«ـيكتم» في موضع المفعول الثاني لـ«ـيكتم». القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد؛ لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه. قال الله تعالى: { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء: 42] وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.

الثانية: قوله تعالى: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } أي لأن يقول ومن أجل «أَنْ يَقُول ربِّيَ اللَّهُ» فـ«ـأَنْ» في موضع نصب بنزع الخافض. { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } يعني الآيات التسع { مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه، ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى. ولو كان و«إِنْ يكن» بالنون جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه؛ ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس. { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم. ومذهب أبي عبيدة أن معنى «بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» كل الذي يعدكم وأنشد قول لبيد:

تَرَّاكُ أمكِنَةٍ إذا لم أَرْضَهَاأو يَرْتَبْطِ بعْضَ النفوسِ حِمَامُها

فبعض بمعنى كلّ؛ لأن البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردي: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام؛ كما قال الشاعر:

قَدْ يُدْرِك المتأَنّي بعض حَاجتِهِوقد يكون مَعَ المسْتَعجِلِ الزَّلَلُ

وقيل أيضاً: قال ذلك لأنه حذرهم أنواعاً من العذاب كل نوع منها مهلك؛ فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع. وقيل: وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا؛ فالمعنى يصبكم أحد العذابين. وقيل: أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضاً. وقيل: وعدهم العذاب إن كفروا والثواب إن آمنوا، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } (على نفسه) { كَذَّابٌ } على ربه إشارة إلى موسى ويكون هذا من قول المؤمن. وقيل: «مُسْرِفٌ» في عناده «كَذَّابٌ» في ادعائه إشارة إلى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى.

الثالثة: قوله تعالى: { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } قال القاضي أبو بكر بن العربي: ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمناً باعتقاده، وقد قال مالك: إن الرجل إذا نوى بقلبه طلاق زوجته أنه يلزمه، كما يكون مؤمناً بقلبه وكافراً بقلبه. فجعل مدار الإيمان على القلب وأنه كذلك، لكن ليس على الإطلاق وقد بيناه في أصول الفقه؛ بما لبابه أن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله.

الرابعة: روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } لفظ البخاري. خرجه الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجؤه وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته: ويلكم { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } والله إنه لرسول الله؛ فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذٍ. فقال عليّ: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون؛ إن ذلك رجل كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل.

قلت: قول عليّ رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصدّيق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه؛ وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه. في «نوادر الأصول» أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها: ما أشدّ شيءٍ رأيتِ المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعوداً في المسجد، ويتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم، فبيناهم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدَقهم، فقالوا: ألست تقول كذا في آلهتنا قال: «بلى» فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: «ويلكم { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام؛ إكرام إكرام.