التفاسير

< >
عرض

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٤٥
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاثون مسألة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } بيَّن تعالى أنه سوّى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك، فضلوا؛ فكانت دِية النَّضِيريّ أكثر، وكان النَّضِيريّ لا يُقتل بالقُرَظِيّ، ويُقتل به القُرَظيّ فلما جاء الإسلام راجع بنو قُرَيظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحكم بالاستواء؛ فقالت بنو النَّضِير: قد حططتَ منا؛ فنزلت هذه الآية. و «كتبنا» بمعنى فرضنا، وقد تقدم. وكان شرعهم القصاص أو العفو، وما كان فيهم الديّة؛ كما تقدّم في «البقرة» بيانه. وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال: يقتل المسلم بالذمي؛ لأنه نفس بنفس، وقد تقدّم في «البقرة» بيان هذا. وقد روى أبو داود والترمذيّ والنسائي عن عليّ رضي الله عنه. إنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتاباً من قِراب سيفه وإذا فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يُقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" وأيضاً فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلاً برجل، ومن قبيلة أُخرى رجلاً برجلين. وقالت الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعاً لنا؛ وقد مضى في «البقرة» في الردّ عليهم ما يكفي فتأمله هناك. ووجه رابع ـ وهو أنه تعالى قال: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } وكان ذلك مكتوباً على أهل التوراة وهم ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذِمة؛ لأن الجِزية فيءٌ وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأُمة، ولم يكن نبيّ فيما مضى مبعوثاً إلا إلى قومه؛ فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ؛ فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين، ويقول: إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس؛ فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم ـ على هذا الوجه ـ: النفس بالنفس، وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع ٱختلاف المِلة.

الثانية ـ قال أصحاب الشافعيّ وأبو حنيفة: إذا جرح أو قطع الأُذن أو اليد ثم قتل فُعِل ذلك به؛ لأن الله تعالى قال: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال علماؤنا: إن قصد به المُثلة فُعِل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قُتِل بالسيف؛ وإنما قالوا ذلك في المُثلة يجب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سَمَل أعين العُرنيِين؛ حسبما تقدّم بيانه في هذه السورة.

الثالثة ـ قوله تعالى: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف، ويجوز تخفيف «أَنَّ» ورفع الكل بالابتداء والعطف. وقرأ ٱبن كثير وٱبن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح. وكان الكِسائيّ وأبو عبيد يقرءان «وَٱلْعَيْنُ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنُ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنُّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحُ» بالرفع فيها كلها. قال أبو عبيد: حدّثنا حجاج عن هرون عن عبّاد بن كثير عن عقيل عن الزّهريّ عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنُ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفُ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنُ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنُّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحُ قِصَاصٌ». والرفع من ثلاث جهات؛ بالابتداء والخبر، وعلى المعنى على موضع «أَنَّ النَّفْسَ»؛ لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس. والوجه الثالث ـ قاله الزجاج ـ يكون عطفاً على المضمر في النفس؛ لأن الضمير في النفس في موضع رفع؛ لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس؛ فالأسماء معطوفة على هي. قال ٱبن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ٱبتداء كلام حُكْم في المسلمين؛ وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ» وكذا ما بعده. والخطاب للمسلمين أُمِروا بهذا. ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها؛ كأن المسلمين أُمِروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به.

الرابعة ـ هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شُبْرُمَة بعموم قوله: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقال: تؤخذ الثَّنِية بالضِّرس والضرس بالثنِية؛ لعموم قوله تعالى: { وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ }. والذين خالفوه وهم علماء الأُمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا؛ وذلك يبين لنا أن المراد بقوله: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } ٱستيفاء ما يماثله من الجاني؛ فلا يجوز له أن يتعدّى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى ٱليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.

الخامسة ـ وأجمع العلماء على أن العينين إذا أُصيبتا خطأ ففيهما الديّة، وفي العين الواحدة نصف الديّة، وفي عين الأعور إذا فُقِئت الديّة كاملة؛ رُوي ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال عبد الملك بن مروان والزّهْريّ وقَتَادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق. وقيل: نصف الديّة؛ روى ذلك عن عبد الله بن المُغَفَّل ومسروق والنَّخَعي؛ وبه قال الثّوريّ والشافعي والنعمان. قال ٱبن المنذِر: وبه نقول؛ لأن في الحديث: «في العينين الدية» ومعقول إذا كان كذلك أن في إحداهما نصف الديّة. قال ٱبن العربي: وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا: إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، فوجب عليه مثل ديته.

السادسة ـ واختلفوا في الأعور يَفقأ عين صحيح؛ فروي عن عمر وعثمان وعليّ أنه لا قَوَد عليه، وعليه الدية كاملة؛ وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل. وقال مالك: إن شاء ٱقتص فتركه أعمى، وإن شاء أخذ الديّة كاملة دية عين الأعور. وقال النَّخَعيّ: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية. وقال الشافعيّ وأبو حنيفة والثوريّ: عليه القصاص، ورُوى ذلك عن عليّ أيضاً؛ وهو قول مسروق وٱبن سِيرين وٱبن مَعْقِل، وٱختاره ٱبن المنذر وٱبن العربيّ؛ لأن الله تعالى قال: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية؛ ففي العين نصف الدية، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس. ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة، وبما روي عن عمر وعثمان وعليّ في ذلك. ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خُيِّر المجني عليه. قال ابن العربيّ: والأخذ بعموم القرآن أولى؛ فإنه أسلم عند الله تعالى.

السابعة ـ واختلفوا في عين الأعور التي لا يُبصر بها؛ فروي عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها مائة دينار. وعن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها؛ وبه قال إسحاق. وقال مجاهد: فيها نصف ديتها. وقال مسروق والزهريّ ومالك والشافعيّ وأبو ثور والنعمان: فيها حكومة؛ قال ابن المنذر: وبه نقول لأنه الأقل مما قيل.

الثامنة ـ وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الأعمش والأخفش. وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصفُ. قال ابن المنذر وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله عليّ بن أبي طالب: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطّيت وأعطى رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى ٱنتهى نظره، ثم أَمَر بخطٍّ عند ذلك، ثم أمر بعينه الأُخرى فغطيت وفتحت الصحيحة وأعطى رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم خطَّ عند ذلك، ثم أمر به فحوّل إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء؛ فأعطي ما نقص من بصره من مال الآخر، وهذا على مذهب الشافعي؛ وهو قول علمائنا، وهي:

التاسعة ـ ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قَوَد في بعض البصر؛ إذ غير ممكن الوصول إليه. وكيفية القَوَد في العين أن تُحمى مرآة ثم توضع على العين الأُخرى قُطْنة، ثم تُقرب المرآة من عينه حتى يَسيل إنسانها؛ روي عن علي رضي الله عنه؛ ذكره المهدويّ وابن العربي. واختلف في جَفْن العين؛ فقال زيد بن ثابت: فيه ربع الدية، وهو قول الشعبيّ والحسن وقتادة وأبي هاشم والثّوريّ والشافعيّ وأصحاب الرأي. وروى عن الشَّعْبيّ أنه قال: في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجَفْن الأسفل ثلثا الدية، وبه قال مالك.

العاشرة ـ قوله تعالى: { وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ } جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفي الأنف إذا أُوعِب جَدْعاً الديّة" . قال ابن المنذِر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به؛ والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمداً كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعالى. واختلفوا في كسر الأنف؛ فكان مالك يرى في العمد منه القَوَد، وفي الخطأ الاجتهاد. ورَوَى ٱبن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصِله من أصله. قال أبو إسحاق التونسيّ: وهذا شاذ، والمعروف الأوّل. وإذا فرّعنا على المعروف ففي بعض المارِن من الدية بحسابه من المارِن. قال ابن المنذِر: وما قطع من الأنف فبحسابه؛ رُوِي ذلك عن عمر ابن عبد العزيز والشَّعْبيّ، وبه قال الشافعيّ. قال أبو عمر: واختلفوا في المارِن إذا قُطِع ولم يستأصل الأنف؛ فذهب مالك والشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة، ثم إن قُطِع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة. قال مالك: الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارِن؛ وهو دون العظم. قال ٱبن القاسم: وسواء قُطِع المارِن من العظم أو استؤصِل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية؛ كالحَشَفة فيها الدية: وفي استئصال الذكر الدية.

الحادية عشرة ـ قال ابن القاسم: وإذا خُرِم الأنفُ أو كُسِر فبَرِىء على عَثْم ففيه الاجتهاد، وليس فيه دِية معلومة. وإن برىء على غير عثم فلا شيء فيه. قال: وليس الأنف إذا خرِم فبرِىء على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير عَثْم فيكون فيها دِيتها؛ لأن تلك جاءت بها السنة، وليس في خرم الأنف أثر. قال: والأنف عظم منفرد ليس فيه مُوضِحَة. واتفق مالك والشافعيّ وأصحابهما على أن لا جائفة فيه، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف. والمارن ما لاَنَ من الأنف؛ وكذلك قال الخليل وغيره. قال أبو عمر: وأظن رَوْثَته مارِنه، وأرنبته طرْفُه. وقد قيل: الأرنبة والرَّوْثة والعَرْتَمة طَرَف الأنف. والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم، في الشم إذا نقص أو فُقِد حكومة.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ } قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أُذني رجل: عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدّية في السمع؛ ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة؛ على ما تقدم. وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر، وإذا شك في السمع جُرب بأن يُصاح به من مواضع عدّة، يقاس ذلك؛ فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك. قال أشهب: ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجال مثله؛ فإن ٱختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء. وقال عيسى بن دينار: إذا ٱختلف قوله عُقِل له الأقل مع يمينه.

الثالثة عشرة ـ قوله تعالى: { وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ } قال ٱبن المنذر: وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد من سِنّ وقال: "كتاب الله القصاص" . وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في السِّن خمس من الإبل" . قال ٱبن المنذر: فبظاهر هذا الحديث نقول؛ لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعِيات؛ لدخولها كلها في ظاهر الحديث؛ وبه يقول الأكثر من أهل العلم. وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئاً منها على شيء عُروة بن الزّبير وطاوس والزُّهريّ وقَتَادة ومالك والثوريّ والشافعيّ وأحمد وإسحاق والنعمان وٱبن الحسن، ورُوي ذلك عن عليّ بن أبي طالب وٱبن عباس ومعاوية. وفيه قول ثان ـ رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمسِ فرائض، وذلك خمسون ديناراً، قيمة كل فريضة عشرة دنانير. وفي الأضراس ببعير بعيرٍ. وكان عطاء يقول: في السن والرَّبَاعِيَتين والنَّابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء، والأضراس سواء؛ قال أبو عمر: أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب: أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعيرٍ فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضِرساً، والأسنان ٱثنا عشر سِنّا: أربع ثنايا وأربع رَباعِيات وأربع أنياب؛ فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيراً؛ في الأسنان خمسة خمسة، وفي الأضراس بعير بعير. وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعِرة خمسة أبعِرة؛ تصير الدية ستين ومائة بعير. وعلى قول سعيد بن المسيب بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرساً؛ يجب لها أربعون. وفي الأسنان خمسة أبعِرة خمسة أبعرة فذلك ستون، وهي تتمة المائة بعير، وهي الديّة كاملة من الإبل. والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان. قال أبو عمر: واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في دِيات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جداً، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوريّ؛ بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي السنّ خمس من الإبل" والضّرس سِنّ من الأسنان. روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأصابع سواء والأسنان سواء الثَّنِية والضّرس سواء هذه وهذه سواء" وهذا نص أخرجه أبو داود. وروى أبو داود أيضاً عن ٱبن عباس قال: جَعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء. قال أبو عمر: على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدّية كلها سواء، وأن الأسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضّل شيءٌ منها على شيء؛ على ما في كتاب عمرو بن حزم. ذكر الثوريّ عن أزهر بن محارب قال: ٱختصم إلى شُرَيح رجلان ضرب أحدهما ثَنِيّة الآخر وأصاب الآخر ضِرسه فقال شريح: الثَّنية وجمالها والضرس ومنفعته سِنّ بسن قوّما. قال أبو عمر: على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار. والله أعلم.

الرابعة عشرة ـ فإن ضرب سِنّه فاسودّت ففيها دِيتها كاملة عند مالك والليث بن سعد، وبه قال أبو حنيفة، ورُوى عن زيد بن ثابت؛ وهو قول سعيد بن المسيب والزهريّ والحسن وٱبن سِيرين وشُرَيْح. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي وأبو ثور: فيها حكومة. قال ٱبن العربيّ: وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق؛ فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشّلاء والعين العمياء، فلا خلاف في وجوب الدية؛ ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة؛ وما روِي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سنداً ولا فِقهاً.

الخامسة عشرة ـ وٱختلفوا في سنّ الصبي يقلع قبل أن يُثْغِر؛ فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قُلِعت سِنّ الصبي فنبتت فلا شيء على القالع، إلا أن مالكاً والشافعيّ قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أَرْشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبيّ؛ وبه قال النعمان. قال ٱبن المنذِر: يُسْتأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاماً؛ على ظاهر الحديث، وإن نبتت ردّ الأَرش. وأكثر من يُحفَظ عنه من أهل العلم يقولون: يُسْتأنى بها سنة؛ روى ذلك عن عليّ وزيد وعمر بن عبد العزيز وشُرَيح والنَّخعيّ وقَتَادة ومالك وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافعيّ لهذا مدة معلومة.

السادسة عشرة ـ إذا قُلِع سنّ الكبير فأخذ ديّتها ثم نبتت؛ فقال مالك لا يردّ ما أخذ. وقال الكوفيون: يردّ إذا نبتت. وللشافعي قولان: يردّ ولا يردّ؛ لأن هذا نبات لم تجرِ به عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر؛ هذا قول علمائنا. تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيردّ؛ أصله سِنّ الصغير. قال الشافعي: ولو جنى عليها جانٍ آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاماً. قال ٱبن المنذر: هذا أصح القولين؛ لأن كل واحد منهما قالع سِنّ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السِنّ خمساً من الإبل.

السابعة عشرة ـ فلو قلع رجل سِنّ رجل فردّها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا. وقال الشافعي: ليس له أن يردّها من قِبل أنها نجسة؛ وقاله ٱبن المسيّب وعطاء. ولو ردّها أعاد كل صلاة صلاها لأنها مَيْتة؛ وكذلك لو قطعت أُذنه فردّها بحرارة الدم فالتزقت مثله. وقال عطاء: يجبره السلطان على قلعها لأنها مَيْتة ألصقها. قال ٱبن العربيّ: وهذا غلط، وقد جَهِل من خَفِي عليه أنّ ردّها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها؛ لأن النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها.

قلت: ما حكاه ٱبن العربيّ عن عطاء خلاف ما حكاه ٱبن المنذر عنه؛ قال ٱبن المنذر: وٱختلفوا في السنّ تقلع قَوداً ثم تردّ مكانها فتنبت؛ فقال عطاء الخراسانيّ وعطاء بن أبي رَبَاح لا بأس بذلك. وقال الثوريّ وأحمد وإسحاق: تقلع؛ لأنّ القصاص للشَّيْن. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قِبل أنها نجسة، ويجبره السلطان على القلع.

الثامنة عشرة ـ فلو كانت له سنّ زائدة فقلعت ففيها حكومة؛ وبه قال فقهاء الأمصار. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث الديّة. قال ٱبن العربيّ: وليس في التقدير دليل، فالحكومة أعدل. قال ٱبن المنذر: ولا يصح ما روي عن زيد؛ وقد روي عن عليّ أنه قال: في السنّ إذا كسِر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه؛ وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما.

قلت: وهنا ٱنتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء، ولم يذكر الشَّفتين واللّسان وهي:

التاسعة عشرة ـ فقال الجمهور: وفي الشفتين الدية، وفي كل واحدة منهما نصف الدية لا فضل للعليا منهما على السفلى. وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيّب والزُّهْريّ: في الشّفة العليا ثلث الدية، وفي الشفة السفلى ثلثا الدية. وقال ٱبن المنذر: وبالقول الأول أقول: للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفي الشّفتين الدية" ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة. وما قطع من الشّفتين فبحساب ذلك. وأما اللّسان فجاء الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في اللّسان الديّة " . وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به؛ قاله ٱبن المنذر.

الموفية عشرين ـ وٱختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئاً، ويذهب من الكلام بعضه؛ فقال أكثر أهل العلم: ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفاً فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية؛ هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس في اللسان قَوَد لعدم الإحاطة باستيفاء القَوَد. فإن أمكن فالقَوَد هو الأصل.

الحادية والعشرون ـ وٱختلفوا في لسان الأخرس يقطع؛ فقال الشعبيّ ومالك وأهل المدينة والثوريّ وأهل العراق والشافعيّ وأبو ثور والنعمان وصاحباه: فيه حكومة. قال ٱبن المنذر: وفيه قولان شاذّان: أحدهما ـ قول النَّخعيّ أن فيه الدية. والآخر قول قتادة أن فيه ثلث الدية. قال ٱبن المنذر: والقول الأوّل أصح؛ لأنه الأقلّ مما قيل. قال ٱبن العربي: نص الله سبحانه على أُمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها؛ فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قَوَد فيه، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه.

الثانية والعشرون ـ قوله تعالى: { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } أي مقاصّة، وقد تقدّم في «البقرة». ولا قصاص في كل مَخُوف ولا فيما لا يُوصَل إلى القصاص فيه إلاّ بأن يخطىء الضارب أو يزيد أو ينقص. ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القَوَد منه. وهذا كله في العمد؛ فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح. وفي صحيح مسلم عن أنس "أن أُخت الرُّبَيِّع ـ أم حارثة ـ جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصاص القصاص فقالت أُم الرُّبَيِّع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: سبحان الله يا أُم الرُّبَيِّع القصاص كتاب الله قالت: لا والله لا يقتص منها أبداً؛ قال فما زالت حتى قبلوا الدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأَبَرَّه" .

قلت: المجروح في هذا الحديث جارية، والجرح كسر ثَنِيّتها؛ أخرجه النسائيّ "عن أنس أيضاً أن عمته كسرت ثَنِيّة جارية فقَضَى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص؛ فقال أخوها أنس بن النّضر: أتُكسَر ثَنِيّة فلانة؟ لا والذي بعثك بالحق لا تُكسَر ثَنِيّتها. قال: وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس ـ وهو الشهيد يوم أُحد ـ رضي القوم بالعفو؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأَبَرَّه" . وخرجه أبو داود أيضاً، وقال سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن؟ قال: تُبْرَد.

قلت: ولا تعارض بين الحديثين؛ فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فَبَرَّ اللَّهُ قسمهما. وفي هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن شاء الله تعالى. فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة.

الثالثة والعشرون ـ أجمع العلماء على أن قوله تعالى: { وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ } أنه في العمد؛ فمن أصاب سِنّ أحد عمداً ففيه القصاص على حديث أنس. واختلفوا في سائر عِظام الجسد إذا كسرت عمداً؛ فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها ٱلقَوَد إلا ما كان مَخُوفاً مثل الفخذ والصّلب والمأمُومة والمُنَقِّلة والهاشِمة، ففي ذلك الديّة. وقال الكوفيون: لا قصاص في عظم يُكسَر ما خلا السنّ؛ لقوله تعالى: { وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ } وهو قول الليث والشافعيّ. قال الشافعيّ: لا يكون كَسْرٌ ككسر أبداً؛ فهو ممنوع. قال الطَّحاويّ: ٱتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس؛ فكذلك في سائر العِظام. والحجة لمالك حديث أنس في السنّ وهي عظم؛ فكذلك سائر العِظام إلا عظماً أجمعوا على أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه. قال ٱبن المنذر: ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث؛ والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر.

قلت: ويدل على هذا أيضاً قوله تعالى: { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194] وقوله: { { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. والله أعلم وبالله التوفيق.

الرابعة والعشرون ـ قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المُوضِّحَة، وما جاء عن غيره في الشِّجَاج. قال الأصمعيّ وغيره: دخل كلام بعضهم في بعض؛ أوّل الشِّجَاج ـ الحَارِصة وهي: التي تَحْرِص الجلد ـ يعني التي تَشقّه قليلا ـ ومنه قيل؛ حَرَص القصّارُ الثوب إذا شقّه؛ وقد يقال لها: الحَرْصَة أيضاً. ثم الباضِعة ـ وهي: التي تشق اللحم تَبْضَعه بعد الجِلد. ثم المتلاحِمة ـ وهي: التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السِّمْحاق. والسِّمْحاق: جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم. وقال الواقِديّ: هي عندنا ٱلملْطَى. وقال غيره: هي المِلْطَاة، قال: وهي التي جاء فيها الحديث: "يُقضَى في المِلْطَاة بِدمها" . ثم المُوضِحة ـ وهي: التي تَكشِط عنها ذلك القِشر أو تشقّ حتى يبدو وضَحَ العظم، فتلك الموضِحة.. قال أبو عبيد: وليس في شيء من الشِّجَاج قصاص إلا في المُوضِحة خاصة؛ لأنه ليس منها شيء له حدّ ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشِّجَاج ففيها ديتها. ثم الهاشِمة ـ وهي التي تَهشِم العظم. ثم المُنَقِّلة ـ بكسر القاف حكاه الجوهري ـ وهي التي تنقل العظم ـ أي تكسِره ـ حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء. ثم الآمَّة ـ ويقال لها المأمومة ـ وهي التي تبلغ أُمّ الرأس، يعني الدّماغ. قال أبو عبيد ويقال في قوله: "ويُقضَى في المِلْطَاة بدمها" أنه إذا شَجَّ الشّاجُ حُكِم عليه للمشجوج بمبلغ الشَّجَّة ساعة شَجّ ولا يُستَأنى بها. قال: وسائر الشِّجَاج عندنا يُستَأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ. قال أبو عبيد: والأمر عندنا في الشّجاج كلها والجِراحات كلها أنه يُستَأنى بها؛ حدثنا هُشَيْم عن حُصَيْن قال قال عمر بن عبد العزيز: ما دون المُوضِحة خُدُوش وفيها صلح. وقال الحسن البصريّ: ليس فيما دون المُوضِحة قصاص. وقال مالك: القصاص فيما دون المُوضِحة المِلْطَى والدامِية والباضِعة وما أشبه ذلك؛ وكذلك قال الكوفيون وزادوا السِّمْحاق، حكاه ٱبن المنذر. وقال أبو عبيد: الدّامِية التي تَدْمَى من غير أن يسيل منها دم. والدّامِعة: أن يَسيل منها دم. وليس فيما دون المُوضِحة قصاص. وقال الجوهريّ: والدّامية الشَّجَّة التي تَدْمَى ولا تَسيل. وقال علماؤنا: الدّامية هي التي تُسيل الدم. ولا قصاص فيما بعد الموضِحة، من الهاشِمة للعظم، والمُنَقِّلة ـ على خلاف فيها خاصة ـ والآمّة هي البالغة إلى أُمّ الرأس، والدّامِغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشِمة الجسد القصاص، إلا ما هو مَخُوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ٱبن القاسم: لا قَوَد فيها؛ لأنها لا بد تعود مُنَقِّلة. وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنقل فتصير مُنَقِّلة لا قَوَد فيها. وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها. وفي معنى المفاصل أبعاض المارِن والأذنين والذكر والأجفان والشفّتين؛ لأنها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظام، إلا ما كان مُتْلِفاً كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذِ وشبهه. وفي كسر عظام العضد القصاص. وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يُكسَر فخذُه؛ وفعل ذلك عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله؛ وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا وقال: إنه الأمر المجمع عليه عندهم، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فيكسرها يقاد منه.

الخامسة والعشرون ـ قال العلماء: الشِّجَاج في الرأس، والجِراح في البدن. وأجمع أهل العلم على أن فيما دون المُوضِحة أرْشٌ فيما ذكر ٱبن المنذر؛ وٱختلفوا في ذلك الأرش. وما دون المُوضِحة شِجاج خمس: الدّامِية والدّامِعة والباضِعة والمتلاحِمة والسِّمْحاق؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدّامِية حكومة، وفي الباضِعة حكومة، وفي المتلاحِمة حكومة. وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال: في الدّامِية بعِير، وفي الباضِعة بعِيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعِرة من الإبل، وفي السِّمْحَاق أربع، وفي المُوضِحة خمس، وفي الهاشِمة عشر، وفي المُنَقِّلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة، أو يضرب حتى يَغُنّ ولا يُفْهِم الدّية كاملة، أو حتى يبّح ولا يُفْهِم الدِّية كاملة، وفي جَفْن العين ربع الدِّية. وفي حَلَمة الثدي ربع الدِّية. قال ٱبن المنذر: وروى عن عليّ في السِّمْحاق مثل قول زيد. وروى عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف المُوضِحة. وقال الحسن البصريّ وعمر بن عبد العزيز والنَّخَعيّ فيها حكومة؛ وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد. ولا يختلف العلماء أن المُوضِحة فيها خمس من الإبل؛ على ما في حديث عمرو بن حزم، وفيه: «وفي المُوضِحة خمس» وأجمع أهل العلم على أن المُوضِحة تكون في الرأس والوجه. واختلفوا في تفضيل مُوضِحة الوجه على مُوضِحة الرأس؛ فروِي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء. وقال بقولهما جماعة من التابعين؛ وبه يقول الشافعي وإسحاق. وروى عن سعيد بن المسيّب تضعيف مُوضِحة الوجه على مُوضِحة الرأس. وقال أحمد: مُوضِحة الوجه أَحْرَى أن يزاد فيها. وقال مالك: المأمومة والمنقِّلة والمُوضِحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدّماغ، قال: والمُوضِحة ما تكون في جُمْجُمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه مُوضحة. قال مالك: والأنف ليس من الرأس وليس فيه مُوضحة، وكذلك اللَّحْيُ الأسفل ليس فيه مُوضِحة. وقد ٱختلفوا في المُوضِحة في غير الرأس والوجه؛ فقال أشهب وٱبن القاسم: ليس في مُوضِحة الجسد ومنقّلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أَرْشٌ معلوم. قال ٱبن المنذِر: هذا قول مالك والثوريّ والشافعيّ وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وروِي عن عطاء الخراسانيّ أن المُوضِحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون ديناراً. قال أبو عمر: وٱتفق مالك والشافعيّ وأصحابهما أن من شَجّ رجلاً مأمومتين أو مُوضِحتين أو ثلاث مأمومات أو مُوضِحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن ـ وإن انخرقت فصارت واحدة ـ دية كاملة. وأما الهاشِمة فلا دِية فيها عندنا بل حكومة. قال ٱبن المنذِر: ولم أجِد في كتب المدنيين ذِكر الهاشِمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد. وكان الحسن البصريّ لا يوقّت في الهاشِمة شيئاً. وقال أبو ثور: إن ٱختلفوا فيه ففيها حكومة. قال ٱبن المنذر: النظر يدل على هذا؛ إذ لا سنة فيها ولا إجماع. وقال القاضي أبو الوليد الباجِي: فيها ما في المُوضِحة؛ فإن صارت مُنَقِّلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدِّية. قال ابن المنذِر: ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشِمة عشراً من الإبل. وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت؛ وبه قال قَتَادة وعبيد الله بن الحسن والشافعيّ. وقال الثوريّ وأصحاب الرأي: فيها ألف دِرهم، ومرادهم عشر الدِّية. وأما المنقّلة فقال ٱبن المنذِر: جاء الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المنقلة خمس عشرة عن الإبل" وأجمع أهل العلم على القول به. قال ابن المنذِر: وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل منها العظام. وقال مالك والشافعيّ وأحمد وأصحاب الرأي ـ وهو قول قَتَادة وابن شُبْرُمة ـ أنّ المنقّلة لا قَوَد فيها؛ وروينا عن ٱبن الزبير ـ وليس بثابت عنه ـ أنه أقاد من المنقِّلة. قال ٱبن المنذر: والأوّل أولى؛ لأني لا أعلم أحداً خالف في ذلك. وأما المأمومة فقال ٱبن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المأمومة ثلث الدِّية" . وأجمع عوام أهل العلم على القول به، ولا نعلم أحداً خالف ذلك إلا مكحولاً فإنه قال: إذا كانت المأمومة عمداً ففيها ثلثاً الدِّية، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدِّية؛ وهذا قول شاذّ، وبالقول الأول أقول. واختلفوا في القَوَد من المأمومة؛ فقال كثير من أهل العلم: لا قَوَد فيها؛ وروي عن ٱبن الزبير أنه أَقَصَّ من المأمومة، فأنكر ذلك الناسُ. وقال عطاء: ما علمنا أحداً أقاد منها قبل ٱبن الزبير. وأما الجائِفة ففيها ثلث الدّية على حديث عمرو بن حزم؛ ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال: إذا كانت عمداً ففيها ثلثا الدِّية، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدِّية. والجائِفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة؛ فإن نفذت من جهتين فهي عندهم جائفتان، وفيها من الدِّية الثلثان. قال أشهب: وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدِية جائفتين. وقال عطاء ومالك والشافعيّ وأصحاب الرأي كلهم يقولون: لا قِصاص في الجائِفة. قال ٱبن المنذر: وبه نقول.

السادسة والعشرون ـ واختلفوا في القَوَد من اللَّطْمَة وشبهها؛ فذكر البخاريّ عن أبي بكر وعليّ وٱبن الزبير وسُوَيْد بن مُقَرِّن رضي الله عنهم أنهم أقادوا من اللَّطْمة وشبهها. وروى عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك؛ وهو قول الشَّعْبيّ وجماعة من أهل الحديث. وقال الليث: إن كانت اللَّطمة في العين فلا قَوَد فيها؛ للخوف على العين ويعاقِبه السلطان. وإن كانت على الخدّ ففيها القَود. وقالت طائفة: لا قِصاص في اللَّطمة؛ روي هذا عن الحسن وقَتَادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعيّ؛ وٱحتج مالك في ذلك فقال: ليس لَطْمَةُ المريض الضعيف مثلَ لطمة القويّ، وليس العبد الأسود يُلطَم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة؛ وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللّطمة.

السابعة والعشرون ـ وٱختلفوا في القَوَد من ضرب السوط؛ فقال الليث والحسن: يقاد منه، ويزاد عليه للتعدّي. وقال ٱبن القاسم: يقاد منه. ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعيّ إلا أن يجرح؛ قال الشافعيّ إن جرح السوط ففيه حكومة. وقال ٱبن المنذِر: وما أُصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القَوَد؛ وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث. وفي البخاريّ وأقاد عمر من ضربة بالدِّرَّة، وأقاد عليّ بن أبي طالب من ثلاثة أسواط. وٱقتص شُرَيْح من سوط وخُمُوش. وقال ٱبن بَطّال: وحديث لدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القَوَد في كل ألم وإن لم يكن جرح.

الثامنة والعشرون ـ وٱختلفوا في عَقْل جراحات النساء؛ ففي «الموطأ» عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب أنه كان يقول: تُعاقِل المرأةُ الرجلَ إلى ثلث دية الرجل، إصبعها كإصبعِه وسِنها كسنه، ومُوضِحتها كموضِحته، ومُنَقِّلتها كمنقِّلته. قال ٱبن بُكَير قال مالك: فإذا بلغت ثلث دِية الرجل كانت على النصف من دِية الرجل. قال ٱبن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز وعُرْوة بن الزبير والزهري وقَتَادة وٱبن هُرْمُز ومالك وأحمد بن حَنْبل وعبد الملك بن الماجِشُون. وقالت طائفة: دِية المرأة على النّصف من دية الرجل فيما قلّ أو كثر؛ روينا هذا القول عن عليّ بن أبي طالب، وبه قال الثوريّ والشافعيّ وأبو ثور والنعمان وصاحباه واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدّية كان القليل مثله، وبه نقول.

التاسعة والعشرون ـ قال القاضي عبد الوهاب: وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلاً ففيه حكومة؛ كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته. وصفة الحكومة أن يُقوَّم المجنى عليه لو كان عبداً سليماً، ثم يُقوَّم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءاً من ديته بالغاً ما بلغ، وحكاه ٱبن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم؛ قال: ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة. وقيل: بل يقبل قول عدل واحد. والله سبحانه أعلم. فهذه جُمَل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن ٱقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه.

الموفيه ثلاثين ـ قوله تعالى: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } شرط وجوابه؛ أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدّق. وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وأجر المتصدق عليه. وقد ذكر ٱبن عباس القولين؛ وعلى الأوّل أكثر الصحابة ومن بعدهم، وروى الثاني عن ٱبن عباس ومجاهد، وعن إبراهيم النَّخَعيّ والشَّعْبيّ بخلاف عنهما؛ والأوّل أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور، وهو «مَنْ». وعن أبي الدَّرْدَاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلاّ رفعه الله به درجة وحَطّ عنه به خطيئة" . قال ٱبن العربي: والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل؛ فلا معنى له.