التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ
٥
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه عشر مسائل:

الأُولى ـ قوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } أي «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» و { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } فأعاد تأكيداً أي أُحِلّ لكم الطيبات التي سألتم عنها؛ وكانت الطّيّبات أُبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية؛ فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا: ماذا أُحِلَّ لنا؟. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال: هذه أيام فلان؛ أي هذا أوان ظهوركم وشيوع الإسلام؛ فقد أكملت بهذا دينكم، وأحللت لكم الطّيّبات. وقد تقدّم ذكر الطَّيّبات في الآية قبل هذا.

الثانية ـ قوله تعالى: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } ٱبتداء وخبر. والطعام ٱسم لما يؤكل والذبائح منه، وهو هنا خاصّ بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل. وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب؛ قال ٱبن عباس قال الله تعالى: { { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121] ثم ٱستثنى فقال: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } يعني ذبيحة اليهوديّ والنصرانيّ؛ وإن كان النصرانيّ يقول عند الذبح: باسم المَسيح واليهودي يقول: باسم عُزَيْر؛ وذلك لأنهم يذبحون على المِلّة. وقال عطاء: كُلْ من ذبيحة النصرانيّ وإن قال باسم المَسِيح؛ لأن الله جلّ وعزّ قد أباح ذبائحهم، وقد علِم ما يقولون. وقال القاسم بن مُخَيْمَرة: كُلْ من ذبيحته وإن قال باسم سَرْجِس ـ ٱسم كنيسة لهم ـ وهو قول الزهريّ وربيعة والشعبيّ ومكحول؛ ورُوي عن صحابيّين: عن أبي الدرداء وعُبادة بن الصّامت. وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابيّ يسمي غير ٱسم الله عزّ وجلّ فلا تأكل؛ وقال بهذا من الصحابة عليّ وعائشة وٱبن عمر؛ وهو قول طاوس والحسن متمسّكين بقوله تعالى: { { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [الأنعام: 121]. وقال مالك: أكره ذلك، ولم يحرّمه.

قلت: العجب من الكيا الطبريّ الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب، ثم أخذ يستدلّ بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال: ولا شك أنهم لا يُسمُّون على الذبيحة إلا الإله الذي ليس معبوداً حقيقة مثل المسِيح وعُزَيْر، ولو سموا الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة، وإنما كان على طريق آخر؛ وٱشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة؛ إذا لم تُتصوّر منه العبادة، ولأن النصرانيّ إنما يذبح على ٱسم المسيح، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقاً؛ وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلاً كما يقول الشافعي، وسيأتي ما في هذا للعلماء في «الأنعام» إن شاء الله تعالى.

الثالثة ـ ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبُّر جائز أكله؛ إذ لا يضر فيه تملُّك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين: أحدهما ـ ما فيه محاولة صَنْعة لا تعلق للدِّين بها؛ كخبز الدقيق، وعصر الزيت ونحوه؛ فهذا إن تُجنِّب من الذميّ فعلى وجه التَّقَزّز. والضرب الثاني ـ هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدّين والنيّة؛ فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم ـ كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة ـ رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأُمّة، وأخرجها ٱلنص عن القياس على ما ذكرناه من قول ٱبن عباس؛ وٱللَّه أعلم.

الرابعة ـ وٱختلف العلماء أيضاً فيما ذَكَّوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أو لا؟ على قولين؛ فالجمهور على أنها عاملة في كُلّ الذبيحة ما حلّ له منها وما حرم عليه، لأنه مُذَكَّى. وقالت جماعة من أهل العلم: إنما حلّ لنا من ذبيحتهم ما حَلّ لهم؛ لأن ما لا يحلّ لهم لا تعمل فيه تذكيتهم؛ فمنعت هذه الطائفة الطّريف والشُّحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب؛ وقَصَرت لفظ الطعام على البعض؛ وحَمَلته الأُولى على العموم في جميع ما يؤكل. وهذا ٱلخلاف موجود في مذهب مالك. قال أبو عمر: وكره مالك شُحُوم اليهود وأكل ما نَحَروا من الإبل، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأساً؛ وسيأتي هذا في «الأنعام» إن شاء الله تعالى؛ وكان مالكرحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون؛ وهذا منهرحمه الله تَنَزُّه.

الخامسة ـ وأما المجوس فالعلماء مجمعون ـ إلا من شَذّ منهم ـ على أن ذبائحهم لا تؤكل ولا يتزوّج منهم؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء. ولا بأس بأكل طعام من لا كتاب له كالمشركين وعَبَدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة؛ إلا الجُبن؛ لما فيه من إنْفَحة الميتة. فإن كان أبو الصبيّ مجوسيّاً وأُمّه كتابيّة فحكمه حكم أبيه عند مالك، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبيّ إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته.

السادسة ـ وأما ذبيحة نصارى بني تَغْلِب وذبائح كلّ دَخيل في اليهوديّة والنصرانيّة فكان عليّ رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تَغْلب؛ لأنهم عَرَب، ويقول: إنهم لم يتمسّكوا بشيء من النصرانيّة إلا بشرب الخمر؛ وهو قول الشافعي؛ وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحقّقين منهم. وقال جمهور الأُمّة: إنّ ذبيحة كل نصرانيّ حلال؛ سواء كان من بني تَغْلِب أو غيرهم، وكذلك اليهوديّ. واحتجّ ٱبن عباس بقوله تعالى: { { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة: 51] فلو لم تكن بنو تَغْلِب من النصارى إلا بتولّيهم إياهم لأُكلت ذبائحهم.

السابعة ـ ولا بأس بالأكل والشُّرب والطَّبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهباً أو فِضّة أو جِلد خِنزير بعد أن تُغسل وتُغلى؛ لأنهم لا يتوقّون النجاسات ويأكلون الميتات؛ فإذا طَبَخوا في تلك القُدور تنجّست، وربما سَرَت النجاسات في أجزاء قُدور الفَخَّار؛ فإذا طُبخ فيها بعد ذلك تُوقّع مخالطة تلك الأجزاء النّجسة للمطبوخ في القِدر ثانية؛ فاقتضى الوَرَع الكفّ عنها. ورُوي عن ٱبن عباس أنه قال: إن كان الإناء من نُحاس أو حديد غُسِل، وإن كان من فَخّار أغلي فيه الماء ثم غُسل ـ هذا إذا ٱحتيج إليه ـ وقاله مالك؛ فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل؛ لما رَوى الدارقطنيّ عن عمر أنه توضأ من بيت نصرانيّ في حُقِّ نصرانيّة؛ وهو صحيح وسيأتي في «الفرقان» بكماله. وفي صحيح مسلم "من حديث أبي ثَعْلَبة الخُشَنِيّ قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أَصِيد بقوسي وأَصيد بكلبي المعلَّم، وأَصِيد بكلبي الذي ليس بمعلّم؛ فأَخْبِرني ما الذي يَحِلّ لنا من ذلك؟ قال: أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها" ثم ذكر الحديث.

الثامنة ـ قوله تعالى: { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شَرْعنا؛ أي إذا ٱشتروا منا ٱللّحم يَحِلّ لهم ٱللّحم ويَحِلّ لنا الثمن المأخوذ منهم.

التاسعة ـ قوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } الآية. قد تقدّم معناها في «البقرة» و «النساء» والحمد لله. ورُوي عن ٱبن عباس في قوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }. هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصّاً. وقال غيره: يجوز نكاح الذِّمّية والحربيّة لعموم الآية. ورُوي عن ٱبن عباس أنه قال: «المحصَناتُ» العفيفات العاقلات. وقال الشَّعبيّ: هو أن تحصن فَرْجها فلا تَزني، وتغتسل من الجنابة. وقرأ الشَّعبيّ «والمحصِنَات» بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائيّ. وقال مجاهد: «المحصَنَات» الحرائر؛ قال أبو عبيد: يذهب إلى أنه لا يحلّ نكاح إماء أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: { { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } [النساء: 25] وهذا القول الذي عليه جِلّة العلماء.

العاشرة ـ قوله تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ } قيل: لمّا قال تعالى { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } قال نساء أهل الكتاب: لولا أن الله تعالى رَضي ديننا لم يُبح لكم نكاحنا؛ فنزلت { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ } أي بما أنزل على محمد. وقال أبو الهيثم: الباء صِلة؛ أي ومن يكفر ٱلإيمان أي يَجْحَدْه { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ }. وقرأ ٱبن السَّمَيْقَع «فَقَدْ حَبَط» بفتح الباء. وقيل: لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها، ذُكر الوعيد على مخالفتها؛ لما في ذلك من تأكيد ٱلزجر عن تضييعها. ورُوي عن ٱبن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله؛ قال الحسن بن الفضل: إن صحّت هذه الرواية فمعناها بربّ الإيمان. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعريّ: ولا يجوز أن يسمّى الله إيماناً خلافاً للحشوِية والسّالميّة؛ لأن الإيمان مصدر آمن يُؤمِن إيماناً، وٱسم الفاعل منه مُؤمِن؛ والإيمان التصديق، والتصديق لا يكون إلا كلاماً، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاماً.