التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
٥٨
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ٱثنتا عشرة مسألة:

الأُولى ـ قال الكلبيّ: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا؛ وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الأذان: لقد ٱبتدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأُمم، فمِن أين لك صِياح مثل صِياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وقيل: إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون؛ تجهيلاً لأهلها، وتنفيراً للناس عنها وعن الداعي إليها. وقيل: إنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب الهازِىء بفعلها، جهلاً منهم بمنزلتها؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه: { { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً } [فصّلت: 33] والنداء الدعاء برفع الصوت، وقد يضم مثل الدُّعاء والرُّغاء. وناداه مناداة ونِداء أي صاح به. وتنادوا أي نادى بعضهم بعضاً. وتَنَادوا أي جلسوا في النادي، وناداه جالسَه في النادي. وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية، أمَا أنه ذُكر في الجمعة على الاختصاص.

الثانية ـ قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون «الصلاة جامِعة» فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصُرِفت القِبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي «الصلاة جامِعة» للأمْر يَعْرِض. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الأذان حتى أُرِيَه عبد الله بن زيد، وعمر ابن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء، وأما رؤيا عبد الله بن زيد الخزرجيّ الأنصاريّ وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة؛ "وأن عبد الله بن زيد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليلاً طرقه به، وأن عمر (رضي الله عنه) قال: إذا أصبحت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذّن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح الصلاة خير من النوم فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أُرِي الأنصاريّ" ؛ ذكره ٱبن سعد عن ٱبن عمر. وذكر الدَّارَقُطْنِيّرحمه الله أن الصدّيق رضي الله عنه أرِي الأذان، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بالأذان قبل أن يخبره الأنصاريّ؛ ذكره في كتاب «المديج» له في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصدّيق وحديث أبي بكر عنه.

الثالثة ـ وٱختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة؛ فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس؛ وقد نص على ذلك مالك في موطئه. وٱختلف المتأخرون من أصحابه على قولين: أحدهما ـ سنة مؤكدة واجبة على الكِفاية في المِصر وما جرى مجرى مِصر من القرى. وقال بعضهم: هو فرض على الكِفاية. وكذلك ٱختلف أصحاب الشافعيّ، وحكى الطَّبَري عن مالك قال: إن تَركَ أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة؛ قال أبو عمر: ولا أعلم ٱختلافاً في وجوب الأذان جملة على أهل المصر؛ لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سَرِيّة قال لهم: "إذا سمعتم الأذان فأَمسِكوا وكُفّوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا ـ أو قال ـ فشنوا الغارة" . وفي صحيح مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار؛ الحديث وقال عطاء ومجاهد والأُوزاعيّ وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. وقال الطَّبَريّ: الأذان سنة وليس بواجب. وذكر عن أشهب عن مالك؛ إن ترك الأذان مسافر عمداً فعليه إعادة الصلاة. وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة؛ قالوا: وأما ساكن المِصر فيستحب له أن يؤذّن ويقيم؛ فإن ٱستجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه. وقال الثوريّ تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر، وإن شئت أذّنت وأقمت. وقال أحمد بن حنبل: يؤذِّن المسافر على حديث مالك بن الحُوَيرِث. وقال داود: الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحُوَيرِث ولصاحبه: "إذا كنتما في سفر فأَذِّنا وأَقِيما وليؤمكما أكبركما" أخرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر. قال ٱبن المنذِر ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له: إذا سافرتما فأذنا وأقِيما وليؤمكما أكبركما" . قال ٱبن المنذِر فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان وأمره على الوجوب. قال أبو عمر: وٱتفق الشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهما والثوريّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطَّبَريّ على أن المسافر إذا ترك الأذان عامداً أو ناسياً أجزأته صلاته؛ وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة. وٱحتج الشافعيّ في أن الأذان غير واجب (وليس) فرضاً من فروض الصلاة بسقوط الأذان للواحد عند الجمع بَعَرَفة والمزدلفة، وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعيّ سواء.

الرابعة ـ وٱتفق مالك والشافعيّ وأصحابهما على أن الأذان مثنى والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول؛ وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة، وفي حديث عبد الله بن زيد؛ قال: وهي زيادة يجب قبولها. وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي مَحْذُورة كذلك إلى وقته وعصره. قال أصحابه: وكذلك هو الآن عندهم؛ وما ذهب إليه مالك موجود أيضاً في أحاديث صحاح في أذان أبي مَحْذُورة، وفي أذان عبد الله ابن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القُرَظِيّ إلى زمانهم. وٱتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان؛ وذلك رجوع المؤذّن إذا قال: «أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمداً رسول الله مرتين» رَجَّع فمدّ من صوته جهده. ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا قوله: «قد قامت الصلاة» فإن مالكاً يقولها مرة، والشافعي مرتين؛ وأكثر العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوريّ والحسن بن حيّ: الأذان والإقامة جميعاً مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان وأوّل الإقامة «الله أكبر» أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان؛ وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم "أن عبد الله بن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جِذْمِ حائط فأذّن مَثْنى وأقام مَثْنَى وقعد بينهما قعدة، فسمع بِلال بذلك فقام وأذن مَثْنَى وقعد قعدة وأقام مَثْنَى" ؛ رواه الأعمش وغيره عن عمرو بن مرة عن ٱبن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق. قال أبو إسحاق السَّبِيعيّ: كان أصحاب عليّ وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة؛ فهذا أذان الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرناً بعد قرن أيضاً، كما يتوارث الحجازيون؛ فأذانهم تربِيع التكبير مثل المكيين. ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة، وأشهد أن محمداً رسول الله مرة واحدة، ثم حيّ على الصلاة مرة، ثم حيّ على الفلاح مرة، ثم يرجع المؤذن فيمدّ صوته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله ـ الأذان كله ـ مرتين مرتين إلى آخره. قال أبو عمر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن رَاهْوَيْه وداود بن عليّ ومحمد بن جرِير الطَّبَريّ إلى إجازة القول بكل ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوه على الإباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعَمِل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعاً، ومن شاء رجّع في أذانه، ومن شاء لم يرجّع، ومن شاء ثَنَّى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلاَّ قوله؛ «قد قامت الصلاة» فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال.

الخامسة ـ وٱختلفوا في التَّثْويب لصلاة الصبح ـ وهو قول المؤذّن: الصلاة خير من النوم ـ فقال مالك والثوريّ والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح ـ بعد قوله: حيّ على الفلاح مرتين ـ الصلاة خير من النوم مرتين؛ وهو قول الشافعيّ بالعراق، وقال بمصر: لا يقول ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء، وقد روى عنهم أن ذلك في نفس الأذان؛ وعليه الناس في صلاة الفجر. قال أبو عمر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي مَحْذُورة: أنه أمره أن يقول في أذان الصبح "الصلاة خير من النوم" . وروى عنه أيضاً ذلك من حديث عبد الله بن زيد. وروي عن أنس أنه قال: من السنة أن يقال في الفجر "الصلاة خير من النوم" . وروى عن ٱبن عمر أنه كان يقوله؛ وأما قول مالك في «الموطأ» أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يُؤْذِنه بصلاة الصبح فوجده نائماً فقال: الصلاة خير من النوم؛ فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يُحتج بها وتُعلم صحتها؛ وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له «إسماعيل» فٱعرفه؛ ذكر ٱبن أبي شيبة حدّثنا عَبْدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له «إسماعيل» قال: جاء المؤذّن يُؤْذِن عمر بصلاة الصبح فقال "الصلاة خير من النوم" فأُعجِب به عمر وقال للمؤذّن: «أقرّها في أذانك». قال أبو عمر: والمعنى فيه عندي أنه قال له: نداء الصبح موضع القول بها لا هٰهنا، كأنه كرِه أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأُمراء بعد. قال أبو عمر: وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه؛ لأن التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظنّ بعمر رضي الله عنه أنه جَهِل شيئاً سَنّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذّنيه، بالمدينة بِلالا؛ وبمكة أبا مَحْذُورة؛ فهو محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي مَحْذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ مشهور عند العلماء. روى وَكِيع عن سفيان عن عِمران بن مسلم عن سُوَيد بن غَفَلَة أنه أرسل إلى مؤذّنه إذا بلغت «حيّ على الفلاح» فقل: الصلاة خير من النوم؛ فإنه أذان بلال؛ ومعلوم أن بِلالاً لم يؤذّن قط لعمر، ولا سمِعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها.

السادسة ـ وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذّن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذّن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذّن بليل فكُلُوا وٱشربوا حتى ينادي ٱبن أُمِّ مَكتوم" . وقال أبو حنيفة والثوريّ ومحمد بن الحسن: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحُويرث وصاحبه: "إذا حضرت الصلاة فأذّنا ثم أَقيما وليؤمكما أكبركما" وقياساً على سائر الصلوات. وقالت طائفة من أهل الحديث؛ إذا كان للمسجد مؤذّنان أذّن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر.

السابعة ـ وٱختلفوا في المؤذّن يؤذّن ويقيم غيره؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أنه لا بأس بذلك؛ لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقِيه على بلال؛ فأذّن بلال، ثم أمر عبد الله بن زيد فأقام. وقال الثوريّ والليث والشافعي: من أذّن فهو يقيم؛ لحديث عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم عن زياد بن نُعَيم "عن زياد بن الحرث الصُّدَائيّ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذّنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخا صُدَاءَ أذّن ومن أذّن فهو يُقِيم" . قال أبو عمر: عبد الرحمن بن زياد هو الإفريقيّ، وأكثرهم يضعِّفونه، وليس يروى هذا الحديث غيره؛ والأول أحسن إسناداً إن شاء الله تعالى. وإن صح حديث الإفريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه؛ فالقول به أولى لأنه نصّ في موضع الخلاف، وهو متأخر عن قصة عبد الله بن زيد مع بلال، والآخر؛ فالآخر من أمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذِّن واحداً راتباً أن يتولى الإقامة؛ فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله.

الثامنة ـ وحكم المؤذّن أن يَتَرسّل في أذانه، ولا يُطَرِّب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطَّغَام والعوامّ عن حدّ الإطراب؛ فيرجّعون فيه التّرجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول. روى الدَّارَقُطْنيّ من حديث ابن جُرَيج عن عطاء عن ٱبن عباس قال: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّن يُطَرِّب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحا وإلا فلا تؤذّن" . ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة من العلماء، ويلوي رأسه يميناً وشمالاً في «حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» عند كثير من أهل العلم. قال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يُسمِع الناس؛ وبه قال إسحاق، والأفضل أن يكون متطهراً.

التاسعة ـ ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز؛ لحديث أبي سعيد؛ وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله قال أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال حيّ على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حيّ على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة" . وفيه عن سعد بن أبي وقّاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبدهُ ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً غُفِر له ما تقدّم من ذنبه" .

العاشرة ـ وأما فضل الأذان والمؤذّن فقد جاءت فيه أيضاً آثار صحاح؛ منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضُرَاط حتى لا يَسمع التَّأذين" الحديث. وحسبك أنه شِعار الإسلام، وعَلمٌ على الإيمان كما تقدّم. وأما المؤذّن فروى مسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤذّنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة" . وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم. والله أعلم. والعرب تُكْنى بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم؛ كما قال قائلهم:

طوال أنْضِيَةِ الأعْناق واللِّمَمِ

وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَسمع مَدَى صوت المؤذّن جِنٌّ ولا إنس ولا شيء إلا شهِد له يوم القيامة" . وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذن مُحتسباً سبع سنين كُتبت له براءة من النار" وفيه عن ٱبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أذّن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم سِتون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة" . قال أبو حاتم: هذا الإسناد منكر والحديث صحيح. وعن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما عَهِد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم "ألاَّ أَتَّخِذ مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً" حديث ثابت.

الحادية عشرة ـ وٱختلفوا في أخذ الأُجرة على الأذان؛ فكره ذلك القاسم بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به. وقال الأوزاعيّ: ذلك مكروه، ولا بأس بأخذ الرزق على ذلك من بيت المال. وقال الشافعي: لا يرزق المؤذّن إلا من خُمْس الخُمْس سهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ٱبن المنذِر: لا يجوز أخذ الأُجرة على الأذان. وقد ٱستدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر؛ أخرجه النسائيّ وٱبن ماجه وغيرهما قال: "خرجت في نفر فكنا ببعض الطريق فأذّن مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذّن ونحن عنه مُتَنكّبون فصرخنا نحكيه نهزأ به؛ فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا قوماً فأقعدونا بين يديه فقال:أيكم الذي سمعت صوته قد ٱرتفع فأشار إليّ القوم كلهم وصدقوا؛ فأرسل كلهم وحبسني وقال لي: قم فأذن فقمت ولا شيء أكره إليّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: قل ٱلله أكبر ٱلله أكبر ٱلله أكبر ٱلله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال لي: ٱرفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول ٱلله أشهد أن محمداً رسول الله حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح ٱلله أكبر ٱلله أكبر لا إله إلا ٱلله ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضّة، ثم وضع يده على ناصية أبي مَحْذُورة ثم أَمَرَّها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرّة أبي مَحْذُورة؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك وبارك عليك فقلت: يا رسول الله مُرني بالتّأذين بمكة، قال: قد أمرتك. فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقدمت على عَتّاب بن أَسِيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذّنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" ؛ لفظ ابن ماجه.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح. رُوي أن رجلاً من النّصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: «أشهد أن محمداً رسول الله» قال: حُرِق الكاذب؛ فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه؛ فكانت عِبرة للخلق «والبلاءُ مُوَكَّلٌ بالمنطِق» وقد كانوا يُمهَلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يَستفتحوا، فلا يُؤخّروا بعد ذلك؛ ذكره ابن العربيّ.