التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ٱثنتان وثلاثون مسئلة:

الأُولى ـ ذكر القشيريّ وٱبن عطية أن هذه الآية نزلت في قصّة عائشة حين فقدت العِقد في غزوة المُرَيْسِيع، وهي آية الوضوء. قال ٱبن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقرّراً عندهم مستعملاً، فكأنّ الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرّخصة في التّيمّم. وقد ذكرنا في آية، «النساء» خلاف هذا، والله أعلم. ومضمون هذه الآية داخل فيما أَمَر به من الوَفَاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذَكَر من إتمام النعمة؛ فإن هذه الرخصة من إتمام النعم.

الثانية ـ وٱختلف العلماء في المعنى المراد بقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } على أقوال؛ فقالت طائفة: هذا لفظ عامّ في كلّ قيام إلى الصلاة، سواء كان القائم متطهّراً أو مُحْدِثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضّأ، وكان عليّ يفعله ويتلو هذه الآية؛ ذكره أبو محمد الدّارميّ في مسنده، وروى مثله عن عِكْرِمة. وقال ٱبن سِيرين: كان الخلفاء يتوضَّئون لكل صلاة.

قلت: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها. وقالت طائفة: الخطاب خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال عبد الله بن حَنْظَلة بن أبي عامر الغَسِيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بالوضوء عند كل صلاة فشقّ ذلك عليه؛ فأُمِر بالسّواك ورُفع عنه الوضوء إلا من حَدث. وقال عَلْقَمة بن الفَغْواء عن أبيه ـ وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبُوك ـ: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يعمل عَمَلاً إلا وهو على وضوء، ولا يكلّم أحداً ولا يردّ سلاماً إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال. وقالت طائفة: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلباً للفضل؛ وحَمَلوا الأمر على النَّدْب، وكان كثير من الصحابة منهم ٱبن عمر يتوضئون لكل صلاة طلباً للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد، إرادةَ البيان لأُمته صلى الله عليه وسلم.

قلت: وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبّاً لا إيجاباً وليس كذلك؛ فإن الأمر إذا ورد، مقتضاه الوجوب؛ لا سيّما عند الصحابة رضوان الله عليهم، على ما هو معروف من سيرتهم. وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نُسخ في فتح مكة؛ وهذا غَلَط لحديث أنس قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، وأن أُمّته كانت على خلاف ذلك" ، وسيأتي؛ ولحديث سُوَيد بن النعمان "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: صلّى وهو بالصَّهْباء العصر والمغرب بوضوء واحد" ؛ وذلك في غزوة خيبر، وهي سنة ست، وقيل: سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان؛ وهو حديث صحيح رواه مالك في موطّئه، وأخرجه البخاريّ ومسلم؛ فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة. فإن قيل: فقد رَوى مسلم عن بُرَيْدَة بن الحُصَيْب: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلّى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر رضي الله عنه: لقد صَنَعتَ اليوم شيئاً لم تكن تصنَعه؛ فقال: عَمْداً صنعته يا عمر" . فلِمَ سأله عمر وٱستفهمه؟ قيل له: إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر؛ والله أعلم. وروَى الترمذيّ عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهراً وغير طاهر؛ قال حميد قلت لأنس: وكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنّا نتوضأ وضوءاً واحداً" ؛ قال: حديث حسن صحيح؛ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوضوء على الوضوء نور" "فكان عليه السلام يتوضأ مجدّداً لكل صلاة، وقد سلم عليه رجل وهو يبول فلم يَردّ عليه حتى تيمم ثم ردّ السلام وقال: إني كَرِهت أن أذكر الله إلا على طُهْر" رواه الدّارقُطْنِي. وقال السدّي وزيد بن أسلم: معنى الآية { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } يريد من المَضَاجِع يعني النَّوم، والقصد بهذا التأويل أن يعمّ الأحداث بالذّكر، ولا سيّما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير؛ التقدير: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } من النّوم، { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ } { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } ـ يعني الملامسة الصغرى ـ فٱغسلوا؛ فتمّت أحكام المُحدِث حدثاً أصغر. ثم قال: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعاً: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } وقال بهذا التأويل محمد بن مَسْلَمة من أصحاب مالك ـرحمه الله ـ وغيره. وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة مُحْدِثين؛ وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجِد الماء إلى قوله: «فَٱطَّهَّرُوا» ودخلت الملامسة الصغرى في قوله «مُحدِثين». ثم ذكر بعد قوله: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } حكم عادم الماء من النوعين جميعاً، وكانت الملامسة هي الجماع، ولا بدّ أن يذكر الجُنُب العادِم الماء كما ذكر الواجِد؛ وهذا تأويل الشافعيّ وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقّاص وٱبن عباس وأبي موسى الأشعريّ وغيرهم.

قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية؛ والله أعلم. ومعنى { إِذَا قُمْتُمْ } إذا أردتم، كما قال تعالى: { { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ } [النحل: 98] أي إذا أردت؛ لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن.

الثالثة ـ قوله تعالى: { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقاً وٱختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن. والله أعلم ولا بدّ في غَسْل الوجه من نَقْل الماء إليه، وإمرار اليد عليه؛ وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بَيَّنّاه في «النساء». وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دَلْكٌ بيده؛ ولا شك أنه إذا ٱنغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يُدَلِّك يقال: غَسَل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حَصَل كَفٰى. والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض؛ فحدّه في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى ٱللحيين، ومن الأُذن إلى الأُذن في العرض، وهذا في الأمرد؛ وأما ٱلمُلْتَحي فإذا ٱكتَسى الذّقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفاً أو كثِيفاً؛ فإن كان الأوّل بحيث تبِين منه ٱلبَشَرة فلا بدّ من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفاً فقد ٱنتقل الفرض إليه كشعر الرأس؛ ثم ما زاد على الذّقن من الشعر وٱسترسل من ٱللحية فقال سُحنون عن ٱبن القاسم: سمعت مالكاً سئل: هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن ٱللحية من الوجه فليمرّ عليها الماء؟ قال: نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أَمْر الناس، وعاب ذلك على من فَعَله. وذكر ٱبن القاسم أيضاً عن مالك قال: يحرّك المتوضّىء ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها؛ قال: وهي مثل أصابع الرجلين. قال ٱبن عبد الحكم: تخليل ٱللّحية واجب في الوضوء والغُسْل. قال أبو عمر: رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه خَلَّل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة. وذكر ٱبن خُوَيْزِمَنْدَادَ: أن الفقهاء ٱتفقوا على أن تخليل ٱللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شيء رُوِي عن سعيد بن جبير؛ قوله: ما بال الرجل يغسِل لِحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسِلها، وما بال الأمْرَد يَغسِل ذقنه ولا يغسِله ذو ٱللحية؟ قال الطحاويّ: التّيمّم واجب فيه مَسْح ٱلبَشَرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم، فكذلك الوضوء. قال أبو عمر: من جَعَل غسل ٱللّحية كلها واجباً جَعَلَهَا وَجْهاً؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، وٱلله قد أَمَر بغسل الوجه أَمْراً مطلقاً لم يخصّ صاحب لحية من أمرد؛ فوجب غَسْلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البَشَرة.

قلت: وٱختار هذا القول ٱبن العربي وقال: وبه أقول؛ لما رُوِي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَغسِل لحيته، خرّجه الترمذي وغيره؛ فعيّن المحتمل بالفعل. وحكى ٱبن ٱلمُنْذِر عن إسحاق أن من تَركَ تخليل لحيته عَامِداً أعاد. ورَوى الترمذيّ عن عثمان بن عَفّان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلّل لحيته؛ قال: هذا حديث حسن صحيح؛ قال أبو عمر: ومن لم يوجب غسل ما ٱنسدل من ٱللّحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشَرَة، فوجب غسل ما ظهر فوق البَشَرة، وما ٱنسدل من ٱللّحية ليس تحته ما يلزم غَسْله، فيكون غَسْل ٱللّحية بدلاً منه. وٱختلفوا أيضاً في غَسْل ما وراء العِذار إلى الأذن؛ فَروى ٱبن وَهْب عن مالك قال: ليس ما خَلْف الصُّدْغ الذي من وراء شعر ٱللحية إلى الذقن من الوجه. قال أبو عمر: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بما رواه ٱبن وَهْب عن مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: البياض بين العِذار وٱلأُذن من الوجه، وغَسْله واجب؛ ونحوه قال الشافعي وأحمد. وقيل: يغسل البياض ٱستحباباً؛ قال ٱبن العربي: والصحيح عندي أنه لا يلزم غَسْله إلا للأمرد لا للمُعَذِّر.

قلت: وهو ٱختيار القاضي عبد الوهاب؛ وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا؟ وٱلله أعلم. وبسبب هذا الاحتمال ٱختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغُسل، إلا أن أحمد قال: يُعيد من تَرَك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة. وقال عامّة الفقهاء: هما سنَّتان في الوضوء والغُسل؛ لأن ٱلأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تُسَمِّي وجهاً إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا ٱتّفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه. وقد مضى هذا المعنى في «النساء». وأما العينان فالناس كلّهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غَسْله، إلا ما رُوي عن عبد الله بن عمر أنه كان يُنضح الماء في عينيه؛ وإنما سَقَط غَسْلهما للتأذّي بذلك وٱلحرج به؛ قال ٱبن العربي: ولذلك كان عبد الله بن عمر لمّا عَمِي يغسل عينيه إذْ كان لا يتأذّى بذلك؛ وإذا تقرّر هذا من حكم الوجه فلا بد من غَسْل جُزْء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدّر؛ وهذا ينبني على أصل من أُصول الفقه وهو: «أنّ ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله» والله أعلم.

الرابعة ـ وجمهور العلماء على أنّ الوضوء لا بدّ فيه من نيّة؛ لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" . قال البخاريّ: فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحجّ والصوم والأحكام؛ وقال الله تعالى: { { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء: 84] يعني على نِيَّته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولكِنْ جهاد ونيَّة" . وقال كثير من الشافعية: لا حاجة إلى نيّة؛ وهو قول الحنفية؛ قالوا: لا تجب النيّة إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سبباً لغيرها، فأمّا ما كان شرطاً لصحّة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط؛ فإنّ من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة، كالحائض والنُّفَساء. احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } فلما وَجَب فعل الغسل كانت النيّة شرطاً في صحّة الفعل؛ لأن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فِعل ما أمر الله به؛ فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي ٱغتسل تَبَرُّداً أو لغرض ما، قَصَد أداء الواجب؛ وصحّ في الحديث أن الوضوء يكفّر؛ فلو صح بغير نية لما كفّر. وقال تعالى: { { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5].

الخامسة ـ قال ٱبن العربي قال بعض علمائنا: إن من خَرَج إلى النهر بنيّة الغُسْل أجزأه، وإن عَزَبت نيّته في الطريق ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بَطَلت النيّة. قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: فركَّبَ على هذا سفاسفة المُفْتِين أن نيّة الصلاة تتخرّج على القولين، وأوردوا فيها نصّاً عمّن لا يفرق بين الظَّن واليقين بأنه قال: يجوز أن تتقدّم فيها النية على التكبير؛ ويا لله ويا لَلْعالمين من أُمَّة أرادت أن تكون مُفْتِية مجتهدة فما وفَّقها الله ولا سدّدهاٰ؛ ٱعلموا رَحمكم الله أن النيّة في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد ٱختلف فيها قول مالك؛ فلمّا نزلت عن مرتبة الاتفاق سُومِح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يَختلف أحد من الأئمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يُحمل الأصل المقصود المتَّفَق عليه على الفرع التابع المختلف فيه! هل هذا إلا غاية الغباوة؟ وأما الصوم فإن الشرع رَفَع الحَرَج فيه لمّا كان ٱبتداؤه في وقت الغَفْلة بتقديم النيّة عليه.

السادسة ـ قوله تعالى: { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } وٱختلف الناس في دخول المَرَافِق في التحديد؛ فقال قوم: نعم؛ لأن ما بعد «إلى» إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه؛ قاله سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في «البقرة» مبيّناً. وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل؛ والرّوايتان مرويّتان عن مالك؛ الثانية لأشهب؛ والأُولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لما رواه الدّارقُطْنيّ عن جابر "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم. كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" . وقد قال بعضهم: إنّ «إلى» بمعنى مع، كقولهم: الذَّوْد إلى الذَّوْدِ إبل، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في «النساء»؛ ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكَتِف، وكذلك الرّجْل تقع على الأصابع إلى أصل الفِخذ؛ فالمرفق داخل تحت ٱسم اليد، فلو كان المعنى مع المَرَافق لم يُفد، فلما قال: «إلى» ٱقتطع من حدّ المرافِق عن الغسل، وبقِيت المرافق مغسولة إلى الظُّفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأُصول لغة ومعنى؛ قال ٱبن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال: إن قوله «إلى المرافِق» حدّ للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما؛ ولذلك تدخل المرافِق في الغسل.

قلت: ولما كان اليد والرّجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول: سمعت خَلِيلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" . قال القاضي عياض: والناس مجمعون على خلاف هذا، وألا يتعدّى بالوضوء حدوده؛ لقوله عليه السلام: "فمن زاد فقد تعدّى وظَلَم" . وقال غيره: كان هذا الفعل مذهباً له ومما ٱنفرد به، ولم يَحْكه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنما ٱستنبطه من قوله عليه السلام: "أنتم الغُرّ المُحَجَّلُون" ومن قوله: "تبلغ ٱلحِلية" كما ذكر.

السابعة ـ قوله تعالى: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } تقدّم في «النساء» أن المسح لفظ مشترك. وأما الرّأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذَكَره الله عز وجل في الوضوء وعيّن الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزِم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان وٱلأنف والفم؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه؛ فإنه سُئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غَسْل بعض وجهه أكان يُجزئه؟ ووضَحَ بهذا الذي ذكرناه أن الأُذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافاً للزهريّ حيث قال: هما من الوجه يغسلان معه، وخلافاً للشعبيّ حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرّأس؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ٱبن أبي هريرة عن الشافعيّ، وسيأتي بيان حجتهما؛ وإنما سمّي الرأس رأساً لعلوّه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس ٱلجبل؛ وإنما قلنا إن الرأس ٱسم لجملة أعضاء لقول الشاعر:

إذا ٱحتملوا رأسي وفي الرأس أَكْثَرىوغُودِر عند المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرِي

الثامنة ـ وٱختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولاً؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه. وأجمع العلماء على أن من مَسَح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكّدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وٱمسحوا رؤوسكم. وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمّم في قوله: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع. وقيل: إنما دخلت لتُفيد معنى بديعاً وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به؛ فلو قال: وٱمسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمراراً من غير شيء على الرّأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحاً به وهو الماء، فكأنه قال: وٱمسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في ٱللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه:

كنَوَاحِ رِيش حَمَامة بَخْدِيَّةومسحتِ باللِّثتين عَصْفَ ٱلإثْمِد

وٱللِّثة هي الممسوحة بعَصْف ٱلإثْمِد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر:

مِثْل القَنَافِذ هَدّاجون قد بَلَغتنَجران أو بلغت سَوْءاتهم هَجَرُ

فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء. وقال الشافعي: ٱحتمل قول الله تعالى: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } بعض الرأس ومسح جميعه فدلّت السُّنّة أن مسح بعضه يُجزىء، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مَسحَ بناصِيته؛ وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عزّ وجلّ: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } في التّيمّم أيُجزِىء بعض الوجه فيه؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلا بدّ أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذا فرق ما بينهما. أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيّما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مَظِنّة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقّات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية: حتى مسح على العِمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المُغيِرة بن شُعْبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسَحَ على العِمامة؛ والله أعلم.

التاسعة ـ وجمهور العلماء على أن مَسْحة واحدة موعِبة كاملة تجزىء. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثاً؛ ورُوي عن أنس وسعيد بن جبيْر وعطاء. وكان ٱبن سِيرين يمسح مرتين قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرّةً؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً، قالوا فيها: ومَسَح برأسِه ولم يذكروا عدداً.

العاشرة ـ وٱختلفوا من أين يبدأ بمسحه؛ فقال مالك: يبدأ بمقدَّم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخّره، ثم يردّهما إلى مقدّمه؛ على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم؛ وبه يقول الشافعيّ وٱبن حنبل. وكان الحسن بن حيّ يقول: يبدأ بمؤخر الرأس؛ على حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْرَاء: وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور على عبد الله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم؛ أخرجه أبو داود من رواية بِشر بن المُفَضَّل عن عبد الله عن الرُّبَيْع، وروى ٱبن عِجْلان عنه عن الرّبَيْع: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأ عندنا فمسح الرأس كله من قَرْن الشعر كل ناحية بمنصَبّ الشعر، لا يحرّك الشعر عن هيئته" ؛ ورُويت هذه الصفة عن ٱبن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه. وأصَحّ ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد؛ وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدّم الرأس. ورُوي عن إبراهيم والشعبيّ أنهما قالا: أيّ نَواحِي رأسك مسحت أجزأ عنك. ومسح ٱبن عمر اليافُوخَ فقط. والإجماع منعقد على ٱستحسان المسح باليدين معاً، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة. وٱختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عمّ ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزىء، وهو قول سفيان الثوريّ؛ قال سفيان: إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه. وقيل: إن ذلك لا يُجزِىء؛ لأنه خروج عن سنّة المسح وكأنه لَعِبٌ. إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يُختلف في الإجزاء. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يُجزِىء مسح الرأس بأقلّ من ثلاث أصابع؛ وٱختلفوا في ردّ اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة ـ بعد الإجماع على أن المسحة الأُولى فرضٌ بالقرآن ـ فالجمهور على أنه سنة. وقيل: هو فرض.

الحادية عشرة ـ فلو غَسَل متوضِّىء رأسه بدل المسح فقال ٱبن العربي: لا نعلم خلافاً أن ذلك يُجزئه، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشِي في الدرس عن أبي العباس ٱبن القاصِّ من أصحابهم قال: لا يُجزئه، وهذا توَلُّج في مذهب الداودية الفاسد من ٱتِّباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمّه الله في قوله: { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الروم: 7] وقال تعالى: { { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } [الرعد: 33] وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أُمِر وزيادة. فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبَّد به؛ قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل؛ وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح.

الثانية عشرة ـ وأما الأذنان فهما من الرأس عند مالك وأحمد والثوريّ وأبي حنيفة وغيرهم، ثم ٱختلفوا في تجديد الماء؛ فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديداً سوى الماء الذي مَسَح به الرأس، على ما فَعَل ٱبن عمر؛ وهكذا قال الشافعيّ في تجديد الماء، وقال: هما سنّة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج؛ وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعيّ. وقال الثوريّ وأبو حنيفة: يُمْسَحان مع الرأس بماء واحد؛ ورُوي عن جماعة من السلف مثلُ هذا القول من الصحابة والتابعين. وقال داود: إن مسح أُذنيه فحسن، وإلا فلا شيء عليه؛ إذ ليستا مذكورتين في القرآن. قيل له: ٱسم الرأس تضمّنهما كما بيّناه. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائيّ وأبي داود وغيرهما "بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صِمَاخَيه" ، وإنما يدل عدمُ ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغَسْل الوجه واليدين، وثبتت سُنّة مسحهما بالسنة. وأهل العلم يكرهون للمتوضِّىء ترك مسح أُذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال: إن ترك مسح أُذنيه لم يُجزه. وقال أحمد: إن تركهما عمداً أحببتُ أن يُعيد. ورُوي عن عليّ بن زياد من أصحاب مالك أنه قال: من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامداً أعاد؛ وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف ولا له حظّ من النظر، ولو كان كذلك لم يُعرف الفرض الواجب من غيره؛ والله أعلم. ٱحتج من قال: هما من الوجه بما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره" فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه. وفي مصنف أبي داود من حديث عثمان: فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. ٱحتج من قال: يُغسل ظاهرهما مع الوجه، وباطنهما يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس؛ فما واجهك من الأذنين وجب غسله؛ لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس، وهذا تردّه الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والرُّبَيِّع وغيرهم. ٱحتج من قال: هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصُّنَابِحي: "فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه" الحديثَ أخرجه مالك.

الثالثة عشرة؛ قوله تعالى: { وَأَرْجُلَكُمْ } قرآ نافع وابن عامر والكسائي «وَأَرْجُلَكمْ» بالنصب؛ وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ «وَأَرْجُلُكُمْ» بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وَأَرْجُلِكُم» بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون؛ فمن قرأ بالنصب جعل العامل «أَغْسِلُوا» وبنى على أن الفرض في الرِّجلين الغَسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافّة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قوله في غير ما حديث، وقد رأى قوماً يتوضئون وأعقابهم تلُوح فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء" . ثم إن الله حدَّهما فقال: «إلَى الْكَعْبين» كما قال في اليدين «إلَى المْرَافِق» فدّل على وجوب غسلهما؛ والله أعلم. ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: ٱتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رَدّ ذلك سوى الطَبري من فقهاء المسلمين، والرّافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض.

قلت: قد رُوي عن ابن عباس أنّه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. وروى أن الحجاج خطب بالأهْوَاز فذكر الوضوء فقال: ٱغسلوا وجوهكم وأيديكم وٱمسحوا برءوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ٱبن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فسمع ذلك أنس ابن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج؛ قال الله تعالى { وَٱمْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ } قال: وكان إذا مسح رجليه بلّهما، وروى عن أنس أيضاً أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وكان عِكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح؛ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً، ويُلغي ما كان مسحاً. وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين؛ قال النحاس؛ـ ومن أحسن ما قيل فيه؛ أن المسح والغسل واجبان جميعاً؛ فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ٱبن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرّجلين هو الغسل.

قلت: وهو الصحيح؛ فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل؛ قال الهروي: أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الدَّاريّ عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلاً ويكون مسحاً، ومنه يقال: للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تَمسَحّ؛ ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغَسل؛ بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغَسل، والتوعّد على ترك غَسلها في أخبار صحاح لا تُحصى كثرة أخرجها الأئمة؛ ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرّجلين، التقدير؛ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وأمسحوا برءوسكم؛ فلما كان الرأس مفعولاً قبل الرِّجلين قُدَّم عليهما في التلاوة ـ والله أعلم ـ لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدّمه عليهما في صفة التطهير. وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي قال: قرأ الحسن والحسين ـ رحمة الله عليهما ـ عَلَيَّ «وَأَرْجُلِكُمْ» فسمع عليٌّ ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: { وَأَرْجُلَكُمْ } هذا من المقدّم والمؤخر من الكلام. وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: ٱغسلوا الأقدام إلى الكعبين. وكذا روى عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب. وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيّداً لمسحهما لكن إذا كان عليهما خُفَّان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خُفّان، فبيّن صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تُغسل فيه الرِّجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن. فإن قيل: إنّ المسح على الخفين منسوخ بسورة «المائدة» ـ وقد قاله ابن عباس، وردّ المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه ـ فالجواب أن من نفى شيئاً وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخُفّين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن: حدّثني سبعون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين؛ وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال: بَالَ جَريرٌ ثم توضأ ومسح على خُفيه. قال إبراهيم النخعيّ: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خُفَّيه.قال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول «المائدة» وهذا نص يردّ ما ذكروه وما ٱحتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريراً أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن «المائدة» نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه؛ وإنما نزل منها يوم عرفة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } على ما تقدّم؛ قال أحمد بن حنبل: أنا أستحسن حديث جَرير في المسح على الخفين؛ لأن إسلامه كان بعد نزول «المائدة» وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك عِلْم؛ ولذلك رَدَّت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت: سَلْه فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الحديثَ. وأمّا مالك فما روي عنه من الإنكار فهو مُنْكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مُقَصّراً فيما يجب عليه. وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال: لا أمسح في حضر ولا سفر. قال أحمد: كما روى عن ٱبن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حُبِّب إلي الوضوء؛ ونحوه عن أبي أيوب. وقال أحمد رضي الله عنه: فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه، وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع، فلا يُصلَّى خلفه. والله أعلم وقد قيل: إن قوله «وَأَرْجُلكُمْ» معطوف على اللفظ دون المعنى. وهذا أيضاً يدل على الغسل فإنّ المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب؛ وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى: { { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } [الرحمن: 35] بالجرّ لأن النحاس الدخان. وقال: { { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21-22] بالجرّ. قال ٱمرؤ القيس:

كبيرُ أُناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّل

فخفض مزمّل بالجوار، وأن المزمّل الرجل وإعرابه الرّفع؛ قال زهير:

لَعِب الزمان بها وغَيَّرهابعدي سَوَافي المُورِ والقَطْرِ

قال أبو حاتم: كان الوجه القطر بالرّفع ولكنه جره على جوار المور؛ كما قالت العرب: هذا حجر ضَبٍّ خَربٍ؛ فجرّوه وإنما هو رفع. وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة وردّه النحاس وقال: وهذا القول غلط عظيم لأنّ الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء.

قلت: والقاطع في الباب من أن فرض الرِّجلين الغَسل ما قدّمناه، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" فخوّفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل، ومعلوم أن النار لا يُعذَّب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الآستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أنّ ذلك على ظهورهما لا على بطونهما، فتبيّن بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم، وإنما ذلك يُدرك بالغَسل لا بالمسح. ودليل آخر من جهة الإجماع؛ وذلك أنهم ٱتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدّى الواجب عليه، وٱختلفوا فيمن مسح قدميه؛ فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما ٱختلفوا فيه. ونقل الجمهور كافّة عن كافّة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة وٱثنتين وثلاثاً حتى يُنقيهما؛ وحسبك بهذا حجة في الغَسل مع ما بيّناه فقد وَضَح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا، وأن العامل في قوله «وَأَرْجُلَكُمْ» قوله: { فٱغْسِلُواْ } والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن؛ ومنه قول الشاعر:

عَلفتُها تِبْناً ومَاءً بارداً

وقال آخر:

ورأيتُ زوجِك في الوغىمُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحا

وقال آخر:

......... وأَطْفَلَتْبِالَجْلَهَتَيْن ظِباؤُها ونَعامُها

وقال آخر:

شَـرَّابُ ألْبـانٍ وتمـرٍ وإقِـط

التقدير: علفتها تِبناً وسَقيتُها ماء. ومتقلِّداً سيفاً وحامِلاً رُمْحاً. وأطْفَلَتْ بالجَلهَتَيْنِ ظباؤها وفرخت نعامها؛ والنعام لا يُطفِل إنما يُفرِخ. وأطفلت كان لها أطفال، والجَلْهَتَانِ جنبتا الوادي. وشَرَّابُ ألبانٍ وآكلُ تمر؛ فيكون قوله: «وَامْسَحُوا بِرُءُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» عطف بالغَسل على المسح حَمْلاً على المعنى والمراد الغَسل؛ والله أعلم.

الرابعة عشرة ـ قوله تعالى: { إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } روى البخاري: حدّثني موسى قال أنبأنا وُهَيْبٌ عن عمرو ـ هو ٱبن يحيٰى ـ عن أبيه قال: شهدتُ عمرو بن أبي حَسَن سأل عبدالله ابن زيد عن وضُوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بِتور من ماء، فتوضأ لهم وُضوء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التَّوْر فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غَرْفاتٍ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المِرفَقين ثلاثاً، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين؛ فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله «وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ» زائدة لقوله: فمسح رأسه ولم يقل برأسه، وأنّ مسح الرأس مرة، وقد جاء مبيناً في كتاب مسلم من حديث عبدالله بن زيد في تفسير قوله: فأقبل بهما وأدبر، وبدأ بمقدّم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وأنكر الأصمعي قول الناس: إنّ الكَعْب في ظهر القدم؛ قاله في «الصحاح» وروي عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن؛ قال ٱبن عطية: ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى هذا، ولكن عبدالوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام؛ وقال الشافعيرحمه الله : لم أعلم مخالفاً في أنّ الكعبين هما العظمان في مَجْمع مَفْصِل الساق؛ وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.

قلت: هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكَعْب في كلام العرب مأخوذ من العُلُوّ ومنه سميت الكعبة؛ وكَعَبَتِ المرأة إذا فلك ثديُها، وكَعْب القناة أنْبُوبها، وأُنبوب ما بين كلِّ عُقْدتين كَعْبٌ، وقد يُستعمل في الشرف والمجد تشبيها؛ ومنه الحديث. "واللَّهِ لا يزالُ كَعْبِك عالياً" . وأما السّنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير: "واللَّهِ لتُقيمُنَّ صفوفَكم أو ليخالِفَنَّ الله بين قلوبكم" قال: فرأيتُ الرّجل يُلصق مَنْكِبه بِمَنْكِب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه. والعقب هو مؤخر الرِّجل تحت العُرقوب، والعُرقوب هو مجمع مَفصِل الساق والقدم، ومنه الحديث "وَيْلٌ للعراقيب من النار" يعني إذا لم تُغسل؛ كما قال: "وَيْلٌ للأعقاب وبطون الأقدام من النّار" .

الخامسة عشرة ـ قال ٱبن وهب عن مالك: ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوُضوء ولا في الغُسل، ولا خير في الجفاء والغُلوّ؛ قال ابن وهب: تخليل أصابع الرِّجلين مُرَغَّب فيه ولا بدّ من ذلك في أصابع اليدين؛ وقال ٱبن القاسم عن مالك: من لم يُخلّل أصابع رجليه فلا شيء عليه. وقال محمد بن خالد عن ٱبن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرّك رجليه: إنه لا يُجزئه حتى يَغسلهما بيديه؛ قال ٱبن القاسم: وإن قدر على غَسل إحداهما بالأخرى أجزاه.

قلت: الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غَسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرِّجل، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وٱنضمام أصابع الرجلين؛ فإن الإنسان. مأمور بغَسل الرِّجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يَدْلُك أصابع رجليه بِخنصره، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه؛ وهذا يقتضي العموم. وقد كان مالكرحمه الله في آخر عمره يَدْلُك أصابع رجليه بِخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدّثه به ٱبن وهب عن ٱبن لَهِيعَة والّليث بن سعد عن يزيد بن عمرو الغِفَاري عن أبي عبدالرحمن الحُبُلي "عن المُسْتَورِد بن شدّاد القُرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيُخلل بِخنصره ما بين أصابع رجليه" ؛ قال ابن وهب فقال لي مالك: إنّ هذا لحسن، وما سمعتُه قطّ إلا السّاعة؛ قال ٱبن وهب: وسمعتُه سئُل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به. وقد رَوى حُذَيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَلِّلوا بين الأصابع لا تُخَللها النّار " وهذا نص في الوعيد على ترك التَّخليل؛ فثبت ماقلناه. والله الموفق.

السادسة عشرة ـ ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، وهي إتباع المتوضىء الفِعْلَ الفِعْلَ إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه، ولا فصل بفعل ليس منه؛ واختلف العلماء في ذلك؛ فقال ابن أبي سَلَمة وابن وهب: ذلك من فروض الوُضوء في الذّكر والنسيان، فمن فرّق بين أعضاء وضوئه متعمداً أو ناسياً لم يجزه. وقال ابن عبدالحكم: يجزئه ناسياً ومتعمّداً. وقال مالك في «المدوّنة» وكتاب محمد: إن الموالاة ساقطة؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: إن فرَّقه متعمداً لم يُجزه ويُجزئه ناسياً؛ وقال مالك في رواية ابن حبيب: يُجزئه في المغسول ولا يُجزئه في الممسوح؛ فهذه خمسة أقوال ٱبتنيت على أصلين: الأوّل ـ أن الله سبحانه وتعالى أَمَرَ أَمْرا مطلقاً فوالِ أو فرِّق، وإنما المقصود وجود الغَسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصّلاة. والثاني ـ أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصّلاة؛ وهذا أصح. والله أعلم.

السابعة عشرة ـ وتتضمن ألفاظ الآية أيضاً الترتيب وقد اختلف فيه؛ فقال الأَبْهَري: الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التَّنكيس للناسي يُجزىء، وٱختلف في العامد فقيل: يُجزىء ويُرتِّب في المستقبل. وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزىء لأنه عابث، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عُبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور، وإليه ذهب أبو مُصْعَب صاحب مالك وذكره في مختصره، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدّم في الوضوء يديه على وجهه، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلّى بذلك الوُضوء. وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن «الواو» لا توجب التّعقيب ولا تُعطي رتبة، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثَّوري والأوزاعي والليث بن سعد والمُزني وداود بن علي؛ قال الكِيَا الطَّبَري ظاهر قوله تعالى: { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } يقتضي الإجزاء فرَّق أو جَمَع أو وَالَى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو مذهب الأكثرين من العلماء. قال أبو عمرو: إلاّ أنّ مالكا يَستحبّ له استئناف الوُضوء على النَّسق لمَا يُستقبل من الصلاة ولا يَرى ذلك واجباً عليه؛ هذا تحصيل مذهبه. وقد رَوى علي بن زياد عن مالك قال: من غَسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غَسل ذراعيه، وإن لم يَذكر حتى صّلى أعاد الوُضوء والصلاة؛ قال عليٌّ ثم قال بعد ذلك: لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يُستأنف. وسبب الخلاف ما قال بعضهم: إنّ «الفاء» توجب التعقيب في قوله: «فَاغْسِلُوا» فإنها لما كانت جواباً للشرط ربطت المشروط به؛ فاقتضت الترتيب في الجميع؛ وأجيب بأنه إنما ٱقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه، وإنما كانت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحداً، فإذا كانت جُملاً كلّها جواباً لم تبال بأيها بدأت. إذ المطلوب تحصيلها. قيل: إنّ الترتيب إنما جاء من قبِل الواو؛ وليس كذلك لأنك تقول: تقاتل زيد وعمرو، وتخاصم بكر وخالد، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب. والصحيح أن يقال: إنّ الترتيب متلقى من وجوه أربعة: الأوّل ـ أن يبدأ بما بدأ الله به كما "قال عليه الصلاة والسلام حين حج: نبدأ بما بدأ الله به" . الثاني ـ من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون. الثالث ـ من تشبيه الوضوء بالصلاة.الرابع ـ من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. ٱحتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غَسل أعضاء الجنابة، فكذلك غَسل أعضاء الوضوء؛ لأنّ المعنى في ذلك الغَسل لا التبدية. وروي عن علي أنه قال: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأتُ. وعن عبدالله بن مسعود قال: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك؛ قال الدّارقطني: هذا مُرسَل ولا يثبت، والأولى وجوب الترتيب. والله أعلم.

الثامنة عشرة ـ إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوّز التّيمم في مثل ذلك؛ لأنّ التّيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء. ٱحتج الجمهور بقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم.

التاسعة عشرة ـ وقد ٱستدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة؛ لأنه قال: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أوَّل مبدوء به؛ وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وهي رواية أشهب عن مالك. وقال ٱبن وهب عن مالك: إزالتها واجبة في الذكر والنسيان؛ وهو قول الشافعي. وقال ٱبن القاسم: تجب إزالتها مع الذكر، وتسقط مع النسيان. وقال أبو حنيفة: تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي ـ يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال ـ قياساً على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه. والصحيح رواية ٱبن وهب؛ لأن "النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبْرين: إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير أمّا أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرىء من بوله" ولا يعذَّب إلا على ترك الواجب؛ ولا حجة في ظاهر القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما بيّن من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، ولم يتعرّض لإزالة النجاسة ولا غيرها.

الموفية عشرين ـ ودلت الآية أيضاً على المسح على الخفين كما بيّنا، ولمالك في ذلك ثلاث روايات: الإنكار مطلقاً كما يقوله الخوارج، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة. وقد تقدّم. الثانية ـ يمسح في السفر دون الحضر؛ لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر؛ وحديث السَّبَاطة يدل على جواز المسح في الحضر، أخرجه مسلم من حديث "حُذَيفة قال: فلقد رأيتُني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى؛ فأتى سُبَاطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال فٱنتبذت منه، فأشار إلي فجئت فقمت عند عقِبه حتى فرغ ـ زاد في رواية ـ فتوضأ ومسح على خفيه" . ومثله حديث شُرَيح بن هانىء قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بٱبن أبي طالب فَسَلْه؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ وللمقيم يوماً وليلة؛ ـ وهي الرواية الثالثة ـ يمسح حضراً وسفراً؛ وقد تقدّم ذكرها.

الحادية والعشرون ـ ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت، وهو قول الليث بن سعد؛ قال ٱبن وهب سمعت مالكاً يقول: ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت. "وروى أبو داود من حديث أبيّ بن عمارة أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم قال: يوماً؟ قال: يوماً قال: ويومين؟ قال: ويومين قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم وما شئت" في رواية "نعم وما بدا لك" . قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقويّ. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبريّ: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شُرَيْح وما كان مثله؛ ورُوي عن مالك في رسالته إلى هارون أو بعض الخلفاء، وأنكرها أصحابه.

الثانية والعشرون ـ والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء؛ "لحديث المغيرة بن شُعْبة أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير ـ الحديث ـ وفيه؛ فأهويتُ لأَنْزِع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" ومسح عليهما. ورأى أَصْبَغ أن هذه طهارة التيمم، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحَدَث. وشذّ داود فقال: المراد بالطهارة هٰهنا هي الطهارة من النجس فقط؛ فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين. وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة.

الثالثة والعشرون ـ ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خَرْق يسير: قال ٱبن خُوَيْزِمَنْدَاد؛ معناه أن يكون الخَرْق لا يمنع من الانتفاع به ومن لُبْسه، ويكون مثله يُمشى فيه. وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوريّ والشافعيّ والطبريّ؛ وقد روي عن الثوريّ والطبريّ إجازة المسح على الخف المخرَّق جملة. وقال الأوزاعيّ: يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم؛ وهو قول الطبريّ. وقال أبو حنيفة: إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح، ولا يمسح إذا ظهر ثلاث؛ وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف. ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخَرْق اليسير، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم. ورُوي عن الشافعيّ إذا كان الخَرْق في مقدّم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه. وقال الحسن بن حيّ: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجَوْرب، فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح؛ قال أبو عمر؛ هذا على مذهبه في المسح على الجَوْربين إذا كانا ثخينين؛ وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وهي:

الرابعة والعشرون ـ ولا يجوز المسح على الجَوْربين عند أبي حنيفة والشافعيّ إلاَّ أن يكونا مجلدين؛ وهو أحد قولي مالك. وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجَوْربين وإن كانا مجلدين. وفي كتاب أبي داود عن المغِيرة بن شُعْبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجَوْربين والنعلين؛ قال أبو داود: وكان عبد الرّحمٰن بن مهديّ لا يحدّث بهذا الحديث؛ لأنّ المعروف عن المغيرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين؛ ورُوي هذا الحديث عن أبي موسىٰ الأشعريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقويّ ولا بالمتصل. قال أبو داود: ومسح على الجَوْربين عليّ بن أبي طالب وأبو مسعود والبَرَاء بن عازِب وأَنَس بن مالك وأبو أُمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حُرَيث؛ ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وٱبن عباس؛ رضي الله عنهم أجمعين.

قلت: وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدّارِميّ في مسنده حدّثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خيرٍ قال: رأيت علِياً توضأ ومسح على النعلين فوسَّع ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما؛ قال أبو محمد الدّارميّرحمه الله : هذا الحديث منسوخ بقوله تعالىٰ: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ }.

قلت: وقول عليّ ـ رضي الله عنه ـ لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين، أخرجه أبو داود عنه قال: لو كان الدِّين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما: إن ذلك يجزئه؛ إلاَّ أن مالكاً قال: من فعل ذلك أعاد في الوقت؛ ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه، وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده؛ وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلاَّ شيء روي عن أشهب أنه قال: باطن الخفين وظاهرهما سواء، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يُعد إلاَّ في الوقت. ورُوي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما؛ والمشهور من مذهبه أنه من مسح بطونهما وٱقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح. وقال أبو حنيفة والثوري: يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما؛ وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة، والمختار عند مالك والشافعيّ وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل، وهو قول ٱبن عمر وٱبن شهاب؛ لما رواه أبو داود والدّارقطنيّ عن المُغيرة بن شُعْبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك فمسح أعلى الخف وأسفله؛ قال أبو داود: روي أن ثوراً لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حَيْوة.

الخامسة والعشرون ـ وٱختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة: الأوّل ـ يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء؛ قاله مالك والليث، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما؛ ورُوي عن الأوزاعيّ والنَّخَعيّ ولم يذكروا مكانه. الثاني ـ يستأنف الوضوء؛ قاله الحسن بن حيّ، وروي عن الأوزاعيّ والنَّخَعيّ. الثالث ـ ليس عليه شيء ويصلّي كما هو؛ قاله ٱبن أبي ليلى والحسن البصري، وهي رواية عن إبراهيم النَّخَعيّ رضي الله عنهم.

السادسة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } وقد مضى في «النساء» معنى الجنب. و «اطَّهَّرُوا» أمر بالإغتسال بالماء؛ ولذلك رأى عمر وٱبن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصَّلاة حتى يجد الماء. وقال الجمهور من الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } والملامسة هنا الجماع؛ وقد صح عن عمر وٱبن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم. وحديث عِمران بن حُصَين نص في ذلك، وهو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلّ في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلّي في القوم فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" أخرجه البخاريّ.

السابعة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ } تقدّم في «النساء» مستوفى، ونزيد هنا مسألة أُصولية أَغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة؛ فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في «النساء» فهو عامّ، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدّود، أو خرج المعتاد على وجه السَّلَس والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضاً. وإنما صاروا إلى اللفظ؛ لأن اللفظ مهما تقرّر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيداً عن الذهن، فصار غير مدلول له، وصار الحال فيه كالحال في الدابة؛ فإنها إذا أُطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهراً. والمخالف يقول: لا يلزم من سبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد؛ فإنّ تناول اللفظ لهما واحد وضعا، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصداً؛ والأوّل أصح، وتتمته في كتب الأُصول.

الثامنة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } روى عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: القُبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لَمْسٌ؛ وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال: لأنه قد ذكر في أوّل الآية ما يجب على من جامع في قوله: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ }. وقال عبد الله بن عباس: اللمس والمس والغشيان الجماع، ولكنه عزّ وجلّ يَكْنىٰ. وقال مجاهد في قوله عزّ وجلّ: { { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [الفرقان: 72] قال: إذا ذكروا النكاح كنَوَا عنه؛ وقد مضى في «النساء» القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله.

التاسعة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } قد تقدّم في «النساء» أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يُسجن أو يُربط، وهو الذي يُقال فيه: إنه إن لم يجد ماء ولا تراباً وخشي خروج الوقت؛ ٱختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: الأوّل ـ قال ٱبن خُوَيْزِمَنْدَادَ: الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يُصلّي ولا شيء عليه؛ قال: ورواه المدنيون عن مالك؛ قال: وهو الصحيح من المذهب. وقال ٱبن القاسم: يصلّي ويعيد؛ وهو قول الشافعي. وقال أشهب: يصلّي ولا يعيد. وقال أَصْبَغ: لا يُصلّي ولا يقضي، وبه قال أبو حنيفة. قال أبو عمر بن عبد البر: ما أعرف كيف أقدم ٱبن خُوَيْزِمَنْدَاد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين. وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله: وليسوا على ماء ـ الحديثَ ـ ولم يذكر أنهم صلوا؛ وهذا لا حجة فيه. وقد ذكر هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة؛ وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء. قال أبو ثور: وهو القياس.

قلت: وقد ٱحتج المُزَنيّ فيما ذكره الكيَا الطَّبَري بما ذكر في قصة القِلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القِلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم، والتيمم متى لم يكن مشروعاً فقد صلوا بلا طهارة أصلاً. ومنه قال المُزَني: ولا إعادة؛ وهو نص في جواز الصَّلاة مع عدم الطهارة مطلقاً عند تعذر الوصول إليها؛ قال أبو عمر: ولا ينبغي حمله على المغمى عليه؛ لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله. وقال ابن القاسم وسائر العلماء: الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلّىٰ. وعن الشافعي روايتان؛ المشهور عنه يصلّي كما هو ويعيد؛ قال المُزَنيّ: إذا كان محبوساً لا يقدر على تراب نظيف صلّىٰ وأعاد؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوريّ والطَّبَري. وقال زُفر بن الهُذَيل: المحبوس في الحضر لا يصلّي وإن وجد تراباً نظيفاً. وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدّم. وقال أبو عمر: من قال يصلّي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم ٱحتاطوا للصَّلاة بغير طَهور؛ قالوا: وقوله عليه السَّلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طَهور" لمن قدر على طَهور؛ فأمّا من لم يقدر فليس كذلك؛ لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلّي كما قدر في الوقت ثم يعيد، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعاً. وذهب الذين قالوا لا يصلّي لظاهر هذا الحديث؛ وهو قول مالك وابن نافع وأَصْبَغ قالوا: من عدم الماء والصعيد لم يصلِّ ولم يقضِ إن خرج وقت الصَّلاة؛ لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي؛ قاله غير أبي عمر، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب.

الموفية ثلاثين ـ قوله تعالىٰ: { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } قد مضى في «النساء» ٱختلافهم في الصعيد، وحديث عِمران بن حُصَين نص على ما يقوله مالك، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السَّلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك، فلما قال: "عليك بالصعيد" أحاله على وجه الأرض. والله أعلم. { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } تقدّم في «النساء» الكلام فيه فتأمله هناك.

الحادية والثلاثون ـ وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب: قال صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شَطْر الإيمان" أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعريّ، وقد تقدّم في «البقرة» الكلام فيه؛ قال ٱبن العربي: والوضوء أصل في الدّين، وطهارة المسلمين، وخصوصاً لهذه الأُمة في العالمين. وقد روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال: هذا وُضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووُضوء أبي إبراهيم" وذلك لا يصح؛ قال غيره: ليس هذا بمعارض لقوله عليه السَّلام: "لكم سِيما ليست لغيركم" فإنهم كانوا يتوضئون، وإنما الذي خص به هذه الأُمّة الغُرَّة والتَّحجيل لا بالوضوء، وهما تفضل من الله تعالىٰ اختص بهما هذه الأُمة شرفاً لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأُمم، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء؛ والله أعلم. قال أبو عمر: وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك الغرّة والتَّحجيل ولا يتوضأ أتباعهم، كما جاء عن موسى عليه السَّلام قال: «يا رب أجد أُمّة كلهم كالأنبياء فٱجعلها أُمّتي» فقال له: «تلك أُمة محمد» في حديث فيه طول. وقد رَوى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلاً يحدّث أنه رأى رؤياً في المنام أن الناس قد جُمعوا للحساب؛ ثم دعي الأنبياء مع كل نبيّ أُمته، وأنه رأى لكل نبيّ نُورين يمشي بينهما، ولمن ٱتبعه من أُمته نوراً واحداً يمشي به، حتى دُعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نُور كله يراه كل من نظر إليه، وإذا لمن ٱتبعه من أُمته نُوران كنُور الأنبياء؛ فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدّثك بهذا الحديث وما علمك به؟ فأخبره أنها رؤيا؛ فأنشده كعب، الله الذي لا إلٰه إلاَّ هو لقد رأيتَ ما تقول في منامك؟ فقال: نعم والله لقد رأيت ذلك؛ فقال كعب: والذي نفسي بيده ـ أو قال والذي بعث محمداً بالحق ـ إنّ هذه لصفة أحمد وأُمته، وصفة الأنبياء في كتاب الله، لكأن ما تقوله من التوراة. أسنده في كتاب «التمهيد». قال أبو عمر: وقد قيل إن سائر الأُمم كانوا يتوضئون والله أعلم؛ وهذا لا أعرفه من وجه صحيح. وخرّج مسلم عن أبي هُرَيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قَطْر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كلُّ خطيئةٍ كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كلُّ خطيئةٍ كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء حتى يخرج نقِيّاً من الذنوب" . حديث مالك عن عبد الله الصُّنَابِحي أكمل، والصواب أبو عبد الله لا عبد الله، وهو مما وهِم فيه مالك، وٱسمه عبد الرّحمٰن بن عُسَيْلة تابعيّ شامي كبير لإدراكه أوّل خلافة أبي بكر؛ قال أبو عبد الله الصُّنَابِحي: قدمت مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجُحْفة إذا براكب قلنا له ما الخبر؟ قال: دفنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام. وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عَبَسَة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعاً عبادة لدحض الآثام؛ وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية؛ لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدّرجات عند الله تعالىٰ.

الثانية والثلاثون ـ قوله تعالىٰ: { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي من ضيق في الدّين؛ دليله قوله تعالىٰ: { { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]. و «مِن» صلة أي ليجعل عليكم حرجاً. { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } أي من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هُريرة والصُّنَابِحِي. وقيل: من الحدث والجنابة. وقيل: لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة. وقرأ سعيد بن المسيّب «لِيُطْهِركم» والمعنى واحد، كما يُقال: نجَّاه وأنجاه. { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر. وقيل: بتِبْيَان الشرائع. وقيل: بغفران الذنوب؛ وفي الخبر: "تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار" . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته.