التفاسير

< >
عرض

قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
٥٩
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٦٠
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ } قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء نَفَر من اليهود ـ فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافِع بن أبي رافع ـ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام؛ فقال: "نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }" فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوّته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا دِيناً شراً من دينكم؛ فنزلت هذه الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان؛ فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دِين من فرق بين أنبياء الله لا دِين من يؤمن بالكل. ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها. و «تَنْقِمُونَ» معناه تسخطون، وقيل: تكرهون وقيل: تنكرون، والمعنى متقارب؛ يقال: نَقَم من كذا يَنْقِم ونَقِم يَنْقَم، والأول أكثر؛ قال عبد الله بن قيس الرُّقَيَّاتِ:

ما نَقَمُوا من بني أُمَيَّة إلاَّأنهم يَحلُمون إن غَضِبُوا

وفي التنزيل { { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } [البروج: 8] ويقال: نَقِمتُ على الرجل بالكسر فأنا ناقِم إذا عتبتَ عليه؛ يقال: ما نَقِمْتُ عَلَيْه الإحسان. قال الكسائي: نَقِمت بالكسر لغة، ونَقَمتُ الأمر أيضاً ونَقِمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النّقمة، والجمع نَقِمات ونَقِم مثل كلمة وكَلِمات وكَلِمِ، وإن شئت سكّنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نِقْمة والجمع نِقَم؛ مثل نِعْمة ونِعم، { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } في موضع نصب بـ «تنقِمون» و «تَنْقِمُونَ» بمعنى تعِيبون، أي هل تنقِمون مِنا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق. { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أي في ترككم الإيمان، وخروجكم عن ٱمتثال أمر الله؛ فقيل هو مثل قول القائل: هل تنقم منّى إلا أنّي عفيفٌ وأنّك فاجر. وقيل: أي لأن أكثركم فاسقون تنقِمون منا ذلك.

قوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ } أي بشرٍّ من نقمكم علينا. وقيل: بشرّ ما تريدون لنا من المكروه؛ وهذا جواب قولهم: ما نعرف ديناً شرّاً من دينكم. { مَثُوبَةً } نصب على البيان؛ وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك؛ ومثله مَقُولة ومَجُوزة ومَضُوفة على معنى المصدر؛ كما قال الشاعر:

وكنتُ إذا جارِي دَعَا لِمَضُوفةٍأشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي

وقيل: مَفْعُلة كقولك مَكْرُمة وَمَعْقُلة. { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } «مَنْ» في موضع رفع؛ كما قال: { { بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكُمُ ٱلنَّارُ } [الحج: 72] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من شر والتقدير: هل أنبئكم بمن لعنه الله؛ والمراد اليهود. وقد تقدم القول في الطاغوت، أي وجعل منهم من عَبَد الطاغوتَ، والموصول محذوف عند الفراء. وقال البصريون: لا يجوز حذف الموصول؛ والمعنى من لعنه الله وعَبَد الطاغوتَ.

وقرأ ٱبن وثّاب والنَّخَعيّ «أُنْبِئُكُمْ» بالتخفيف. وقرأ حمزة: «عَبُدَ الطَّاغُوت» بضم الباء وكسر التاء؛ جعله إسماً على فَعُل كعَضُد فهو بناء للمبالغة والكثرة؛ كيَقُظ ونَدُس وحَذُر، وأصله الصفة؛ ومنه قول النابغة.

مِن وَحْشِ وَجْرة مَوْشِيّ أَكَارِعُهطَاوِي المَصِيرِ كَسيف الصَّيْقَل الفَرُد

بضم الراء. ونصبه بـ «جعل»؛ أي جعل منهم عَبُداً للطاغوتِ، وأضاف عَبُد إلى الطاغوت فخفضه. وجَعَل بمعنى خلق، والمعنى: وجَعَل منهم من يبالغ في عِبادة الطاغوت. وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء؛ وجعلوه فعلاً ماضياً، وعَطفوه على فعل ماض وهو غَضِب ولَعَن؛ والمعنى عندهم من لَعَنه الله ومن عَبَد الطاغوتَ، أو منصوباً بـ «جعل»؛ أي جَعَل منهم القِردة والخنازير وَعَبد الطاغوتَ. ووحد الضمير في عَبَد حملاً على لفظ «مَنْ» دون معناها. وقرأ أُبيّ وٱبن مسعود «وَعَبَدُوا الطاغوتَ» على المعنى. ٱبن عباس: «وعُبُدَ الطَّاغُوتِ»، فيجوز أن يكون جمع عَبْد كما يقال: رَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف، ويجوز أن يكون جمع عِباد كما يقال: مِثَال ومُثُل، ويجوز أن يكون جمع عَبِيد كرغيف ورُغُفٍ ويجوز أن يكون جمع عابد كبازِل وبُزُل؛ والمعنى: وخدم الطّاغوتِ. وعن ٱبن عباس أيضاً «وعُبَّدَ الطَّاغوتَ» جعله جمع عابد كما يقال: شَاهِد وشُهَّد وغَايب وغُيَّب. وعن أَبي واقد: وعُبَّاد الطاغوتِ للمبالغة، جمع عابد أيضاً؛ كعامل وعُمّال، وضارب وضُرّاب. وذكر محبوب أن البصريين قرءوا: «وعِبَادَ الطاغوتِ» جمع عابد أيضاً، كقائم وقيَام، ويجوز أن يكون جمع عَبْد. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي «وعُبِدَ الطّاغُوتُ» على المفعول، والتقدير: وعُبِدَ الطاغوتُ فيهم. وقرأ عون العُقَيْليّ وٱبن بُرَيدة: «وعَابِدُ الطَّاغُوتِ» على التوحيد، وهو يؤدّي عن جماعة. وقرأ ٱبن مسعود أيضاً «وعُبَدَ الطَّاغُوتِ» وعنه أيضاً وأُبيّ «وعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ» على تأنيث الجماعة؛ كما قال تعالى: { { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ } [الحجرات: 14]. وقرأ عبيد بن عمير: «وَأَعْبُدَ الطَّاغُوتِ» مثل كلب وأكلب. فهذه ٱثنا عشر وجهاً.

قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } لأن مكانهم النار؛ وأما المؤمنون فلا شَرّ في مكانهم. وقال الزجاج: أُولئك شر مكاناً على قولكم. النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أُولئك الذين لعنهم الله شر مكاناً في الآخرة من مكانكم في الدنيا لِما لحقكم من الشرّ. وقيل: أُولئك الذين لعنهم الله شر مكاناً من الذين نقموا عليكم. وقيل: أُولئك الذين نقموا عليكم شر مكاناً من الذين لعنهم الله. ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إخوة القِردة والخنازير فنكّسوا رؤوسَهم ٱفتضاحاً، وفيهم يقول الشاعر:

فلعنة الله على اليهودإن اليهود إخوة القرود