التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٩٠
إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
٩١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٩٢
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه سبع عشرة مسألة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذ كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نَفِيٌّ منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هَوَى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. وأما الخمر فكانت لم تُحرّم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاثٍ بعد وقعة أُحُد، وكانت وقعة أحد في شوّال سنة ثلاث من الهجرة. وتقدّم ٱشتقاقها. وأما «الميسر» فقد مضى في «البقرة» القول فيه. وأما ٱلأنصاب فقيل: هي الأصنام. وقيل: هي النَّرْد والشَّطْرَنْج؛ ويأتي بيانهما في سورة «يونس» عند قوله تعالى: { { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس: 32]. وأما الأزلام فهي القِداح؛ وقد مضى في أوّل السورة القول فيها. ويقال: كانت في البيت عند سَدَنة البيت وخُدّام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئاً؛ فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره.

الثانية ـ تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [البقرة: 219] أي في تجارتهم؛ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية { { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } [النساء: 43] فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ } ـ الآية ـ فصارت حراماً عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئاً أشدّ من الخمر. وقال أبو مَيْسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب؛ فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال؛ ٱللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: ٱنتهينا ٱنتهينا. وقد مضى في «البقرة» و «النساء». وروى أبو داود عن ٱبن عباس قال: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } نسختها التي في المائدة { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ }. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت فيّ آيات من القرآن؛ وفيه قال: وأتيت على نَفرَ من الأنصار؛ فقالوا: تَعالَ نُطعمْك ونسقيك خمراً، وذلك قبل أن تُحرَّم الخمر؛ قال: فأتيتهم في حشٍّ ـ والحَشُّ البستان ـ فإذا رأس جَزُور مشويّ عندهم وزِقٌّ من خمر؛ قال: فأكلتُ وشربتُ معهم؛ قال: فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار؛ قال: فأخذ رجل لَحْيَى جمل فضربني به فجرح أنفى ـ وفي رواية فَفَزَره وكان أنف سعد مَفْزُوراً ـ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله تعالى فيّ ـ يعني نفسَه شأنَ الخمر ـ { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ }.

الثالثة ـ هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحاً معمولاً به معروفاً عندهم بحيث لا يُنكَر ولا يُغيَّر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه؛ يدل عليه آية النساء { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } على ما تقدّم. وهل كان يباح لهم شرب القَدْر الذي يُسكر؟ حديثُ حمزة ظاهر فيه حين بَقَر خواصر ناقتي عليّ رضي الله عنهما وجَبَّ أسنمتَهما، فأخبر علي بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يُسكر؛ ولذلك قال الراويّ: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثَمِلٌ؛ ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على حمزة ولا عَنَّفه. لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لَمَّا قال حمزة: ـ وهل أنتم إلا عبيد لأبي ـ على عقبيه القَهْقَري وخرج عنه. وهذا خلاف ما قاله الأُصوليون وحَكَوه فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه. والله أعلم.

الرابعة ـ قوله تعالى: { رِجْسٌ } قال ٱبن عباس في هذه الآية: «رِجْسٌ» سخط وقد يقال للنَّتْن والعَذِرة والأقذار رجسٌ. والرِّجز بالزاي العذاب لا غير، والرِّكْسُ العَذِرة لا غير. والرِّجسُ يقال للأمرين. ومعنى { مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أي بحمله عليه وتزيينه. وقيل: هو الذي كان عَمِل مبادىء هذه الأُمور بنفسه حتى ٱقتدى به فيها.

الخامسة ـ قوله تعالى: { فَٱجْتَنِبُوهُ } يريد أبعدوه وٱجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأُمور، وٱقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأُمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ فبهذا حرّمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة «المائدة» نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: { { قُل لاَّ أَجِدُ } [الأنعام: 145] وغيرها من الآي خبراً، وفي الخمر نَهْيا وزَجْراً، وهو أقوى التحريم وأوكده. روى ٱبن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حُرِّمت الخمر، وجعلت عدلاً للشِّرك؛ يعنى أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شِرْكٌ. ثم علق { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب. والله أعلم.

السادسة ـ فَهِمَ الجمهورُ من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرِّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمُزَنيّ صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد ٱستدل سعيد بن الحداد القرويّ على طهارتها بسفكها في طرق المدينة؛ قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق. والجواب؛ أن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سُرُوب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كُنُف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكُنُف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. وأيضاً فإنه يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهراً يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرّز عنها ـ هذا ـ مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طُرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. والله أعلم. فإن قيل؛ التَّنجِيس حكم شرعيّ ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرّماً أن يكون نجساً؛ فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس؛ قلنا: قوله تعالى: «رِجْسٌ» يدل على نجاستها: فإن الرّجس في اللسان النجاسة، ثم لو ٱلتزمنا ألاّ نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصّاً لتعطلت الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأيُّ نص يوجد على تنجيس البول والعَذِرة والدّم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة. وسيأتي في سورة «الحج» ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

السابعة ـ قوله: { فَٱجْتَنِبُوهُ } يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخلِيل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. روى مسلم عن ٱبن عباس: "أن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رَاوِية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل علمت أن الله حرّمها قال: لا، قال: فسَارَّ رجلاً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِم سَارَرْتَه قال؛ أمرته ببيعها؛ فقال: إن الذي حَرّم شربها حَرّم بيعها قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها" ؛ فهذا حديث يدل على ما ذكرناه؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة: "هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فٱنتفعتم به" الحديث.

الثامنة ـ أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العَذِرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله؛ ولذلك ـ والله أعلم ـ كره مالك بيع زِبل الدواب، ورخص فيه ٱبن القاسم لما فيه من المنفعة؛ والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.

التاسعة ـ ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها؛ لأن الخلّ مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمراً على مسلم أنه أتلف له مالاً. وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمراً ليتيم، وٱستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال: "لا" ونهى عن ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سُحْنُون بن سعيد. وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها؛ وهو قول الثوريّ والأُوزاعيّ والليث بن سعد والكوفيين. وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المِسك والملح فصارت مُرَبَّى وتحوّلت عن حال الخمر جاز. وخالفه محمد بن الحسن في المربَّى وقال: لا تُعالجَ الخمر بغير تحويلها إلى الخلّ وحده. قال أبو عمر: ٱحتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء؛ وهو يُروى عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقويّ أنه كان يأكل المربَّى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح. وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر؛ وليس في رأي أحد حجة مع السنة. وبالله التوفيق. وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك. وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذٍ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خُلّلت. وروى أشهب عن مالك قال: إذا خلّل النصرانيّ خمراً فلا بأس بأكله، وكذلك إن خَلّلها مسلم وٱستغفر الله؛ وهذه الرواية ذكرها ٱبن عبد الحكَم في كتابه. والصحيح ما قاله مالك في رواية ٱبن القاسم وٱبن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خَلاًّ ولا يبيعها، ولكن ليُهرِيقها.

العاشرة ـ لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخلّ حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقَبِيصة وٱبن شهاب وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.

الحادية عشرة ـ ذكر ٱبن خُوَيْزِمَنْدَاد أنها تُملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغَصَص، ويطفأ بها حريق؛ وهذا نقل لا يعرف لمالك بل يُخرّج هذا على قول من يرى أنها طاهرة. ولو جاز ملكها لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإراقتها. وأيضاً فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها. والحمد لله.

الثانية عشرة ـ هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشِّطْرَنج قماراً أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } الآية. ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } الآية. فكل لهوٍ دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراماً مثله. فإن قيل: إنّ شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنج هذا المعنى؛ قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعاً بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويصدّان عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله ٱفتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما ٱشتركا فيه من المعاني. وأيضاً فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنج لا يسكر ثم كان حراماً مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنج حراماً مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضاً فإن ٱبتداء اللعب يورث الغَفْلة، فتقوم تلك الغَفْلة المستولية على القلب مكان السكر؛ فإن كانت الخمر إنما حرّمت لأنها تسكر فتصدّ بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنْج لأنه يُغفِل ويُلهي فيصدّ بذلك عن الصلاة. والله أعلم.

الثالثة عشرة ـ مُهدى الراوية يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكاً بالإباحة المتقدّمة، فكان ذلك دليلاً على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ ـ كما يقوله بعض الأُصوليين ـ بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، بل بيّن له الحكم؛ ولأنه مخاطب بالعمل بالأوّل بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قُبَاء؛ إذ كانوا يُصلّون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. وقد تقدّم في سورة «البقرة» والحمد لله؛ وتقدّم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر. وقد مضى في صدر هذه السورة القول في الأنصاب والأزلام. والحمد لله.

الرابعة عشرة ـ قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ }. الآية. أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذّرنا منها، ونهانا عنها. روى أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وٱنتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صَحَوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم يقول: لو كان أخي بي رحيماً ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن؛ فأنزل الله: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } الآية.

الخامسة عشرة ـ قوله تعالى: { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ } يقول: إذا سكِرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعليّ، وروى: بعبد الرحمن كما تقدّم في «النساء». وقال عبيد الله بن عمر: سئل القاسم بن محمد عن الشِّطْرَنج أهي ميسر؟ وعن النّرد أهو ميسر؟ فقال: كلّ ما صدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال أبو عبيد: تأوّل قوله تعالى: { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ }.

السادسة عشرة ـ قوله تعالى: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى ٱنتهوا قال: ٱنتهينا. وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألاَ إنّ الخمر قد حُرّمت؛ فكسرت الدِّنان، وأُريقت الخمر حتى جرت في سِكك المدينة.

السابعة عشرة ـ قوله تعالى: { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ } تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وٱمتثال للأمر، وكفّ عن المنهيّ عنه، وحَسُن عطف «وَأَطِيعُوا اللَّهَ» لما كان في الكلام المتقدّم معنى ٱنتهوا. وكرر «وَأَطِيعُوا» في ذكر الرسول تأكيداً؛ ثم حذر في مخالفة الأمر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة؛ فقال: { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي خالفتم { أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسِل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يُعصَى أو يطاع.