التفاسير

< >
عرض

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
٣٨
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ } تقدّم معنى الدابة والقول فيه في «البقرة» وأصله الصفة؛ من دَبّ يَدِبّ فهو دابّ إذا مشى مشياً فيه تَقَارُب خَطْو. { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } بخفض «طائرٍ» عطفاً على اللفظ.

وقرأ الحسن وعبدالله بن أبي إسحاق «وَلاَ طَائِرٌ» بالرفع عطفاً على الموضع، و «مِن» زائدة التقدير: وما دابةٌ. «بِجَنَاحَيْهِ» تأكيد وإزالة للإبهام؛ فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر، تقول للرجل: طِرْ في حاجتي؛ أي أَسرعْ؛ فذَكَر «بجناحيه» ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز. وقيل: إن ٱعتدال جَسَد الطائر بين الجناحين يعِينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل؛ فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و { { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النحل: 79]. والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي؛ ومنه جَنَحت السفينةُ إذا مالت إلى ناحية ٱلأرض لاصقة بها فوقفت. وطائر ٱلإنسان عمله؛ وفي التنزيل { { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [الإسراء: 13]. { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتَكفّل بأرزاقهم، وعدَلَ عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و«دابة» تقع على جميع ما دبّ؛ وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة؛ والمعنى: وما من دابة ولا طائِر إلا وهو يسبِّح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. وقال أبو هُريرة: هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غداً ويقتص للجّماء من القَرْنَاء ثم يقول الله لها: كوني تراباً. وهذا ٱختيار الزجاج فإنه قال: { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول ٱلأول أيضاً. وقال سُفيان بن عُيْينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه؛ فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يَشْرَه كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس؛ فهذا معنى المماثلة. واستحسن الخَطَّابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حِذْرك. وقال مجاهد في قوله عز وجل: { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } قال: أصناف لهن أسماء تُعرف بها كما تُعرَفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تُحشر وتنعم في الجنة، وتعوّض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم؛ والصحيح { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله. وقول سفيان أيضاً حسن؛ فإنه تشبيه واقع في الوجود.

قوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئاً من أمر الدين إلا وقد دَلَلْنَا عليه في القرآن؛ إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يُتَلقّى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب؛ قال الله تعالى: { { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [النحل: 89] وقال: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] وقال: { { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7] فأجمل في هذه الآية وآية «النحل» ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره إما تفصيلاً وإما تأصيلاً؛ وقال: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3].

قوله تعالىٰ: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } أي للجزاء، كما سبق في خبر أبي هُريرة، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة ٱلجَلْحَاء من الشاة القَرْناء" . ودَلّ بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة؛ وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم، ورُوي عن ٱبن عباس؛ قال ٱبن عباس في رواية: حشْرُ الدوابّ والطيْر موتُها؛ وقاله الضحاك؛ وٱلأوّل أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح، وفي التنزيل { { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5] وقول أبي هُريرة فيما روى جعفر بن بِرقان عن يزيد بن الأصم عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء؛ فيبلغ من عدل الله تعالىٰ يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: «كُونِي تُرَاباً» فذلك قوله تعالىٰ: { { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ: 40]. وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجَزَع قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف؛ فيقول الله تعالىٰ لهن: «كُنَّ تُرَاباً» فحينئذٍ يتمنى الكافر أن يكون تُراباً. وقالت جماعة: هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تَخلّل كلامٌ معتَرضٌ وإقامة حُجج؛ وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه؛ وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال: حتى يُقاد للشاة الجَلْحاء من القَرْناء، وللحجر لما رَكِب على الحجر، وللعود لما خدَش العود: قالوا: فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لأن الجمادات لا يُعقَل خطابها ولا ثوابُها ولا عقابُها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء؛ قالوا: ولأن القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا.

قلت: الصحيح القول الأوّل لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجرى عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به؛ وروي عن أبي ذر قال: "انتطحت شاتان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذَرٍّ هل تدري فيما ٱنتطحتا؟ قلت: لا. قال: لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما" وهذا نص، وقد زدناه بياناً في كتاب «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة». والله أعلم.