التفاسير

< >
عرض

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ
٥٩
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف مَلَك. وروى البخارِيّ عن ٱبن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تَغِيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" . وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفِرْية؛ والله تعالى يقول: { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }. ومفاتح جمع مَفْتَح، هذه اللغة الفصيحة. ويقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابنِ السَّمَيْقَع «مفاتِيح». والمِفتح عبارة عن كل ما يَحُلّ غَلقَا، محسوسا كان كالقُفْل على البيت أو معقولا كالنظر. وروى ابن ماجه في سننه وأبو حاتم البُسْتيّ في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ من الناس مفاتيحَ للخير مَغَالِيق للشرّ وإن من الناس مفاتيحَ للشرّ مغالِيق للخير فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويْلٌ لمن جعل الله مفاتيحَ الشرّ على يديه" . وهو في الآية استعارة عن التوصُّل إلى الغيوب كما يتوصّل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان؛ ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس افتح عليّ كذا؛ أي أعطني أو علّمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصّلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله؛ بدليل قوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } وقال: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ }. الآية وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق؛ عن السُّدِّي والحسن. مُقاتِل والضحّاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبّر عنها بما يتوصّل إليها به. وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت ٱنقضائها. وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال؛ إلى غير هذا من الأقوال. والأوّل المختار. والله أعلم.

الثانية ـ: قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آيةٍ من كتابه إلا من ٱصطفى من عباده. فمن قال: إنه ينزّل الغَيْث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ٱدّعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرّحِم فهو كافر؛ فإن لم يجزم وقال: إن النَّوْء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه لم يكفر؛ إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل متى شاء، مرّة بنَوْء كذا، ومرّة دون النَّوْء؛ قال الله تعالى: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب" على ما يأتي بيانه في «الواقعة» إن شاء الله. قال ابن العربيّ: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثَّدْي الأيمن مسودّ الحَلَمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى؛ وٱدْعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ٱدعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا رِيبة في كفره أيضا. فأمّا من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدّب ولا يسجن. أمّا عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يُدرَك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله: { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ }. وأما أدبهم فلأنهم يُدخلون الشك على العامّة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره؛ فيشوّشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدّبوا حتى يُسِروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلِنوا به.

قلت: ومن هذا الباب (أيضا) ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عَرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" . والعرّاف هو الحازر والمنجِّم الذي يدّعي علم الغيب. وهي من العِرافة وصاحبها عَرّاف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدّمات يدّعي معرفتها. وقد يعتضِد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزَّجْر والطرْق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفنّ هو العِيَافة (بالياء). وكلّها ينطلق عليها ٱسم الكهانة؛ قاله القاضي عِيَاض. والكهانة: ٱدعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الكافي: من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسُّحْت والرّشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وٱدعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللّعِب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد ٱنقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجّمين والكُهّان لا سِيّما بالديار المصرية؛ فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجِّمين، بل ولقد ٱنخدع كثير من المنتسبين للفقه والدِّين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرّافين فَبَهْرجوا عليهم بالمُحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر؛ لقوله عليه السلام: "لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" . فكيف بمن ٱتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم (رحمه الله) عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أناسٌ عن الكُهّان فقال: إنهم ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدّثونا أحيانا بشيء فيكون حقّاً ٰ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنيّ فيُقرّها في أذن ولِيّه قَرّ الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة" . قال الحُميدِيّ: ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاريّ أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الملائكة تنزل في العَنَان وهو السحاب فتذكر الأمر قُضِي في السماء فتَسْتَرِق الشياطينُ السمع فتسمعه فتوحِيه إلى الكُهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم" . وسيأتي هذا المعنى في «سبأ» إن شاء الله تعالى.

الثالثة ـ: قوله تعالى: { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } خصّهما بالذّكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحبّ والنّوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } روى يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ٱبن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِن زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رِزق فلان ابن فلان" وذلك قوله في محكم كتابه: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }. وحكى النقّاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السّقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحيّ، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جارٍ على طريقة الرّموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه. وقيل: المعنى { وما تسقط من ورقة } أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، { وَظُلُمَاتِ الأَرْض } بطونها وهذا أصح؛ فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية. وقيل: { فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ } يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضِين السابعة. { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } بالخفض عطفا على اللفظ. وقرأ ٱبن السَّمَيْقَع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع { من ورقة }؛ فـ «مِن» على هذا للتوكيد. { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيانٍ يلحقه، تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعملوا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب.