التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
٦٥
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم. ومعنى { مِّن فَوْقِكُمْ } الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح؛ كما فعل بعادٍ وثمودَ وقومِ شعيبٍ وقومِ لوطٍ وقومِ نوحٍ؛ عن مجاهد وابن جُبير وغيرِهما. { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } الخسْف والرّجفة؛ كما فعل بقارون وأصحاب مَدْين. وقيل: «من فوقكم» يعني الأمراء الظلمة، «ومن تحت أرجلكم» يعني السّفِلة وعَبيد السّوء؛ عن ابن عباس ومجاهد أيضاً. { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } وروي عن أبي عبد الله المدنِيّ «أو يُلبسكم» بضم الياء، أي يجلّلكم العذاب ويعمّكم به، وهذا من اللُّبس بضم الأوّل، وقراءة الفتح من اللَّبْس. وهو موضع مشكِل والأعراب يبيّنه. أي يَلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر؛ كما قال: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } [المطففين: 3] وهذا اللَّبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلِفي الأهواء؛ عن ابن عباس. وقيل: معنى «يلبسكم شيعاً» يقوّي عدوّكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبِسكم. { شِيَعاً } معناه فِرقاً. وقيل يجعلكم فرقاً يقاتل بعضكم بعضاً؛ وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم على طلب الدنيا. وهو معنى قوله { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } أي بالحرب والقتل في الفتنة؛ عن مجاهد. والآية عامّة في المسلمين والكفار. وقيل هي في الكفار خاصّةً. وقال الحسن: هي في أهل الصلاة.

قلت: وهو الصحيح؛ فإنه المشاهد في الوجود، فقد لَبِسنا العدوّ في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضاً وٱستباحة بعضنا أموال بعض. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وعن الحسن أيضاً أنه تأوّل ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. روى مسلم عن ثَوْبَانَ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإنّ أمتي سيبلغ مُلْكها ما زُوِي لِي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمّتي ألا يهلكها بسنَة عامّة وألاّ يسلّط عليهم عدوًّا مِن سِوَى أنفسِهم فيستبيحَ بَيْضَتهم وإنّ ربّي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ وإني قد أعطيتك لأمتك ألاّ أهلكهم بسنَة عامّة وألا أسلط عليهم عدوّاً من سِوَى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو ٱجتمع عليهم من بإقطارها ـ أو قال من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً ويَسْبِي بعضهم بعضاً" . وروى النسائيّ "عن خَبّاب بن الأَرَتّ، وكان قد شهِد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلةَ كلّها حتى كان مع الفجر، فلما سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته جاءه خَبّاب فقال: يا رسول الله، بأبِي أنت وأميٰ لقد صليتَ الليلة صلاة ما رأيتك صَليتَ نحوها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجَلْ إنها صلاة رَغَب ورَهَب سألتُ الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يُهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوًّا مِن غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يُلبسنا شِيَعاً فمنعنِيها" . وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب (التذكرة) والحمد لله. "وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل: يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك؟ فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال: يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم. فقال: يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض؟ فنزل جبريل بهذه الآية: { الۤـمۤ } { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } الآية" . وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزلت هذه الآية { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجه الله فلما نزلت { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال: هاتان أهون" . وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر قال: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسِي وحين يصبح: اللَّهُمَّ إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللَّهُمَّ إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللَّهُمَّ ٱستر عوراتي وآمن رَوْعاتي واحفظني من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال مِن تحتي" . قال وكِيع: يعني الخَسْف.

قوله تعالى: { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } أي نبين لهم الحجج والدلالات { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يريد بطلان ما هم عليه من الشِّرْك والمعاصي.