التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣١
-الأعراف

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان:

الأُولى ـ قوله تعالى: { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ } أي الخِصْب والسَّعة. { قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ } أي أعْطيناها باستحقاق. { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي قَحْط ومرض، وهي المسألة: ـ

الثانية ـ { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ } أي يتشاءموا به. نظيره { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [النساء: 78]. والأصل «يتطيروا» أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة: «تطيّروا» على أنه فعل ماض. والأصل في هذا من الطِّيرةِ وزَجْر الطَّير، ثم كثُرَ استعمالهم حتى قيل لكل من تشاءم: تَطَيَّر. وكانت العرب تتيمّن بالسّانح: وهو الذي يأتي من ناحية اليمين. وتتشاءم بالبارح؛ وهو الذي يأتي من ناحية الشّمال. وكانوا يتطيرون أيضاً بصوت الغراب؛ ويتأوّلونه البَيْن. وكانوا يستدِلون بمجاوبات الطيور بعضِها بعضاً على أُمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك. وهكذا الظِّباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون إذا بَرَحت: «مَنْ لي بالسّانح بعد البارح». إلا أنّ أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير؛ فسمَّوْا الجميع تَطَيُّراً من هذا الوجه. وتطيّر الأعاجمُ إذا رأُوا صبِيّاً يذهب به إلى المُعَلِّم بالغداة، ويتيمَّنون برؤية صبيّ يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السَّقاء على ظهره قِربة مملوءةٌ مشدودة، ويتيمّنون برؤية فارغ السِّقاء مفتوحة قربته؛ ويتشاءمون بالحَمّال المثقّل بالحِمْل، والدابة المُوقرة، ويتيمنون بالحَمّال الذي وضع حِمله، وبالدابة يُحَطّ عنها ثِقْلُها. فجاء الإسلام بالنَّهْي عن التّطيّر والتشاؤم بما يُسمع من صوتِ طائرٍ ما كان، وعلى أيّ حال كان؛ فقال عليه السلام: "أقِرُّوا الطير على مَكِناتها" . وذلك إن كثيراً من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وَكْرها فنفّرها؛ فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم. فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله: "أَقِرُّوا الطير على مكناتها" هكذا في الحديث. وأهل العربية يقولون: «وُكُناتها» قال ٱمرؤ القيس:

وقد أغْتَـدِي والطّيْر في وُكناتـها

والوُكْنة: ٱسم لكلّ وكْر وعُشّ. والوكن: موضع الطائر الذي يبيض فيه ويُفْرِخ، وهو الخرق في الحيطان والشجر. ويقال: وَكَن الطائر يَكِن وكُوناً إذا حضن بيضه. وكان أيضاً من العرب من لا يرى التطيّر شيئاً، ويمدحون من كذّب به. قال المُرَقَّش:

ولقد غَدَوْتُ وكنتُ لاأغدُو على وَاقٍ وحاتم
فإذا الأشائِمُ كالأيامِنِ والأيامِنُ كالأشائم

وقال عكرمة: كنت عند ٱبن عباس فمرّ طائر يصيح؛ فقال رجل من القوم: خير، خير. فقال ٱبن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. قال علماؤنا: وأما أقوال الطير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلاً عن مستقبل فتُخبِر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطير؛ إلا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلى الله عليه وسلم من ذلك، فٱلتحق التطيّر بجملة الباطل. والله أعلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس مِنّا من تحلّم أو تكهّن أو ردّه عن سفره تطيّر" . وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الطِّيَرة شرك ـ ثلاثاً ـ وما مِنا إلاّ ـ ولكِنّ الله يذهبه بالتوكّل" . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رجّعته الطِّيرة عن حاجته فقد أشرك. قيل: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن يقول أحدهم اللَّهُمّ لا طَيْرَ إلا طَيْرُكَ ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ ولا إلۤه غيرُك ثم يمضي لحاجته" . وفي خبر آخر: "إذا وجد ذلك أحدكم فليقل اللَّهُمّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بك. ثم يذهب متوكّلاً على الله؛ فإن الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك، وكفاه الله تعالى ما يُهِمّه" . وقد تقدم في «المائدة» الفرق بين الفأل والطيرة. { أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهُ } وقرأ الحسن «طَيْرُهم» جمع طائر. أي ما قُدِّر لهم وعليهم. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ما لحِقهم من القَحط والشدائد إنما هو من عند الله عز وجل بذنوبهم لا من عند موسى وقومه.