التفاسير

< >
عرض

وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
١٦٣
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٦٤
-الأعراف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ } أي عن أهل القرية؛ فعبّر عنهم بها لما كانت مستقراً لهم أو سبب اجتماعهم. نظيره { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82]. وقوله عليه السلام: "ٱهتز العرش لموت سعد بن معاذ" يعني أهل العرش من الملائكة، فرحا واسبشاراً بقدومه، رضي الله عنه. أي واسأل اليهود الذين هم جيرانك عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قِردة وخنازير. وهذا سؤال تقرير وتوبيخ. وكان ذلك علامة لصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ أطلعه الله على تلك الأُمور من غير تعلم. وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لأنا من سِبط خليله إبراهيم، ومن سِبط إسرائيل وهم بكر الله، ومن سبط موسى كليم الله؛ ومن سبط ولده عزير، فنحن من أولادهم. فقال الله عز وجل لنبيه: سلهم يا محمد عن القرية، أما عذبتهم بذنوبهم؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة.

وٱختُلف في تعيين هذه القرية؛ فقال ابن عباس وعِكرمة والسُّدِّي: هي أيْلة. وعن ٱبن عباس أيضاً أنها مَدْين بين أيلة والطور. الزُّهْرِيّ: طَبَرِيّة. قتادة وزيد بن أسلم: هي ساحل من سواحل الشأم، بين مَدْين وعَيْنون، يقال لها: مقناة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السُّبّة عليهم. { ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } أي كانت بقرب البحر؛ تقول: كنت بحضرة الدار أي بقربها. { إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ } أي يصيدون الحِيتان، وقد نُهوا عنه؛ يقال: سَبَت اليهودُ؛ تركوا العمل في سبتهم. وسُبِت الرجل للمفعول سُباتاً أخذه ذلك، مثل الخرس. وأسبت سكن فلم يتحرك. والقوم صاروا في السبت. واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروف. وهو من الراحة والقَطْع. ويجمع أسْبُت وسُبُوت وأسبات. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ٱحتجم يوم السبت فأصابه بَرَص فلا يلومنّ إلا نفسه" . قال علماؤنا: وذلك لأن الدّم يجمد يوم السبت، فإذا مددته لتستخرجه لم يجرِ وعاد بَرَصاً. وقراءة الجماعة «يَعْدُون». وقرأ أبو نَهِيك «يُعِدّون» بضم الياء وكسر العين وشد الدال. الأُولى من الاعتداء والثانية من الإعداد؛ أي يهيئون الآلة لأخذها. وقرأ ابن السَّمَيْقَع «في الأسبات» على جمع السبت. { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ } وقرىء «أسباتهم». { شُرَّعاً } أي شوارع ظاهرة على الماء كثِيرة. وقال اللّيث: حيتان شُرّع رافعة رؤوسها. وقيل: معناه أن حيتان البحر كانت ترِد يوم السبت عُنُقاً من البحر فتزاحم أيْلة. ألهمها الله تعالى أنها لا تُصاد يوم السبت؛ لنَهْيِه تعالى اليهود عن صيدها. وقيل: إنها كانت تشرع على أبوابهم؛ كالكِباش البيض رافعةً رؤوسها. حكاه بعض المتأخرين؛ فتعدّوا فأخذوها في السبت؛ قاله الحسن. وقيل: يوم الأحد، وهو الأصح على ما يأتي بيانه. { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } أي لا يفعلون السبت؛ يقال: سبت يسبِت إذا عظّم السبت. وقرأ الحسن «يُسْبِتون» بضم الياء، أي يدخلون في السبت؛ كما يقال: أجمعنا وأظهرنا وأشهرنا، أي دخلنا في الجمعة والظهر والشهر. { لاَ تَأْتِيهِمْ } أي حيتانهم. { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } أي نشدّد عليهم في العبادة ونختبرهم. والكاف في موضع نصب. { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي بفسقهم. وسئل الحسين بن الفضل: هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتاً، والحرام يأتيك جَزْفاً جَزْفاً؟ قال: نعم، في قصة داود وأيلة { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ }. ورُوي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام، وأن إبليس أوْحَى إليهم فقال: إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت، فٱتّخذوا الحياض؛ فكانوا يسوقون الحِيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد. وروى أشهب عن مالك قال. زعم ابن رُومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطاً ويضع فيه وَهَقة، وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتِد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرّق الناس حين رأُوا من صنع هذا لا يُبْتَلى حتى كثُرَ صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده؛ فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت، وجاهرت بالنهي واعتزلت. وقيل: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم؛ فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا؛ فعلَوْا على الجدار فنظروا فإذا هم قَردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القِردة أنسابَها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القِردة؛ فجعلت القِردة تأتي نسيبها من الإنس فَتَشُم ثيابه وتبكي؛ فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردةً والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نَهوْا وهلك سائرهم. فعلى هذا القول إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين. ويكون المعنى في قوله تعالى: { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم: إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا؟ فمسخهم الله قردة. { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي قال الواعظون: موعظتنا إياكم معذرةٌ إلى ربكم؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند هذا القول الطَّبريّ عن ٱبن الكلبيّ. وقال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فِرَق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عَصَتْ وصادت، وكانوا نحواً من سبعين ألفاً. وفرقة نَهَت واعتزلت، وكانوا ٱثنَيْ عشر ألفاً. وفرقة اعتزلت ولم تَنْهَ ولم تَعْص، وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لِم تعظون قوماً ـ تريد العاصية ـ الله مهلكُهم أو معذّبهم على غلبة الظن، وما عُهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية: موعظتنا معذرةٌ إلى الله لعلّهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم ٱختُلف بعد هذا؛ فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تَنْه ولم تَعْص هلكت مع العاصية عقوبةً على ترك النهي؛ قاله ابن عباس. وقال أيضاً: ما أدري ما فُعل بهم؛ وهو الظاهر من الآية. وقال عكْرمة: قلت لابن عباس لمّا قال ما أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كَرِهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نَجَوْا؛ فكسَاني حُلّة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غيرُ قولُه: «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا». وقولُه: { { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } [البقرة: 65] الآية. وقرأ عيسى وطلحة «معذِرةً» بالنصب. ونصبُه عند الكسائيّ من وجهين: أحدهما على المصدر. والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة. وهي قراءة حَفْص عن عاصم. والباقون بالرفع: وهو الاختيار؛ لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنَفاً من أمر لِيمُوا عليه، ولكنهم قيل لهم: لِم تَعظون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة. ولو قال رجل لرجل: معذرةً إلى الله وإليك من كذا، يريد اعتذاراً؛ لنصب. هذا قول سيبويه. ودلّت الآية على القول بسدّ الذَّرائع. وقد مضى في «البقرة». ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينْسُل أم لا، مبيّناً. والحمد لله. ومضى في «آل عمران» و«المائدة» الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر. ومضى في «النساء» ٱعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم كان مثلهم؛ فلا معنى للإعادة.