التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } أي وٱذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذتُ من المواثيق من العباد يوم الذّرّ. وهذه اية مشِكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه. فقال قوم: معنىٰ الآية أن الله تعالىٰ أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: ومعنىٰ «أشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» دلّهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورةً أن له ربَّاً واحداً. { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } أي قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم؛ كما قال تعالىٰ في السموات والأرض. { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]. ذهب إلى هذا القَفّالُ وأطنب. وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المَعْرفة ما علمت به ما خاطبها.

قلت: وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غيرُ هذين القولين، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام. وروىٰ مالك في موطَّئه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالىٰ خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذُرِّية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذُرِّية فقال خلقتُ هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة ٱستعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فُيدخلَه الجنة وإذا خلق العبد للنار ٱستعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" . قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار لم يَلْق عمر. وقال فيه يحيىٰ بن مَعين: مسلم بن يسار لا يُعرف، بينه وبين عمر نعيمُ بن ربيعة، ذكره النسائيّ، ونعيم غير معروف بحمل العلم. لكن معنىٰ هذا الحديث قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وعبد الله بن مسعود وعليّ بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. روىٰ الترمِذِيّ وصححه عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كلُّ نَسَمة هو خالقها (من ذُرِّيته) إلى يوم القيامة وجعل بين عَيْنَيْ كلِّ رجل منهم وَبيصاً من نور ثم عَرَضَهُمْ على آدم فقال يا ربّ من هؤلاء قال هؤلاء ذُرِّيتك فرأىٰ رجلاً منهم فأعجبه وبيِصُ ما بين عينيه فقال أيْ ربِّ من هذا؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذُرِّيتك يقال له داود فقال ربِّ كم جعلت عُمْرَه قال ستين سنة قال أي رَبِّ زِدْه من عُمْرِي أربعين سنةً فلما ٱنقضىٰ عُمْر آدم عليه السلام جاءه مَلَك الموت فقال أو لم يبق من عُمْري أربعون سنةً قال أوَ لم تُعْطِها ٱبنك داود قال فجَحَد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته" . في غير الترمذي: فحينئذ أمر بالكُتّاب والشهود. في رواية: فرأىٰ فيهم الضعيف والغنيّ والفقير والذليل والمبتلى والصحيح. فقال له آدم: يا ربّ، ما هذا؟ ألا سوّيت بينهم! قال: أردت أن أشكر. وروى عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخِذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس" . وجعل الله لهم عقولاً كنملة سليمان. وأخذ عليهم العهد بأنه ربّهم وأن لا إله غيره. فأقرّوا بذلك وٱلتزموه، وأعلمهم بأنه سيبعث إليهم الرسل؛ فشهد بعضهم على بعض. قال أُبيّ بن كعب: وأشهد عليهم السموات السّبع، فليس من أحد يُولد إلى يوم القيامة إلا وقد أُخِذ عليه العهد.

واخُتلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال؛ فقال ابن عباس: ببطن نَعْمان، وادٍ إلى جنب عَرفة. وروىٰ عنه أن ذلك برَهْبَا ـ أرض بالهند ـ الذي هبط فيه آدم عليه السلام. وقال يحيىٰ بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية: أهبط الله آدم بالهند، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نَسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ } قال يحيىٰ قال الحسن: ثم أعادهم في صُلب آدم عليه السلام. وقال الكَلْبِي: بين مكة والطائف. وقال السُّدِّيّ: في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنىٰ ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم ٱدخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرىٰ ذرّية سوداء وقال لهم ٱدخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جُريج: خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء. وكل نفس مخلوقة للنار سوداء.

الثانية ـ قال ابن العربيّ (رحمه الله): «فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يُذنبوا، أو يُعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه، قلنا: ومن أين يمتنع ذلك، أعقلاً أم شرعاً؟ فإن قيل: لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه، وربنا تعالىٰ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق. ولا تُحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلُق بأجمعهم له، صَرْفهم كيف شاء، وحَكَم بينهم بما أراد، وهذا الذي يجده الآدميّ إنما تبعث عليه رِقة الجِبِلّة وشفقة الجنسيّة وحبُّ الثناء والمدح؛ لما يتوقع في ذلك من الانتفاع، والباري تعالىٰ متقدّس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به».

الثالثة ـ واختلف في هذه الآية، هل هي خاصّة أو عامّة. فقيل: الآية خاصة؛ لأنه تعالىٰ قال: { مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } فخرج من هذا الحديث من كان من ولد آدم لصُلْبه. وقال جل وعز: { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } فخرج منها كلُّ مَن لم يكن له آباء مشركون. وقيل: هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء. وقيل: بل هي عامّة لجميع الناس؛ لأن كلّ أحد يعلم أنه كان طفلاً فغُذّي ورُبِّيَ، وأن له مُدَبِّراً وخالقاً. فهذا معنى { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }. ومعنىٰ { قَالُواْ بَلَى } أي إن ذلك واجب عليهم. فلما ٱعترف الخلق لله سبحانه بأنه الربّ ثم ذهلوا عنه ذكّرهم بأنبيائه وختم الذِّكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له: { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية: 22]. ثم مكّنه من السيطرة، وأتاه السلطنة، ومكّن له دينه في الأرض. قال الطَّرْطوشي: إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة، كما يلزم الطلاقُ من شُهد عليه به وقد نَسِيَه.

الرابعة ـ وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيراً دخل الجنة لإقراره في الميثاق الأوّل. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأوّل. وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختُلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في «الرُّوم» إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب «التّذكرة» والحمد لله.

الخامسة ـ قوله تعالىٰ: { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل ٱشتمال من قوله { مِن بَنِيۤ آدَمَ }. وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم، وليس لآدم في الآية ذكْر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا: وإذ أخذ ربُّك من ظهور بني آدم ذرّيتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلّهم بَنُوه، وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنىٰ عن ذكره لقوله: { مِن بَنِيۤ آدَمَ }. { ذُرِّيَّتَهُمْ } قرأ الكوفيون وابن كَثير بالتوحيد وفتح التاء، وهي تقع للواحد والجمع؛ قال الله تعالىٰ: { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [آل عمران: 38] فهذا للواحد؛ لأنه إنما سأل هبة ولد فَبشِّر بيحيىٰ. وأجمع القراء على التوحيد في قوله: { مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ } [مريم: 58] ولا شيء أكثر من ذريّة آدم. وقال: { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } فهذا للجمع. وقرأ الباقون «ذُرِّيَّاتِهِمْ» بالجمع، لأن الذرية لما كانت تقع للواحد أتىٰ بلفظ لا يقع للواحد فجمع لتخلص الكلمة إلى معناها المقصود إليه لا يُشركها فيه شيء وهو الجمع؛ لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذرّيات كثيرة متناسبة، أعقاب بعد أعقاب، لا يعلم عددهم إلا الله؛ فجمع لهذا المعنىٰ.

السادسة ـ قوله تعالىٰ: { بَلَىٰ } تقدّم القول فيها في «البقرة» عند قوله: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } مستوفىٰ، فتأمله هناك. { أَن يَقُولُوۤاْ } «أَوْ يَقُولُوا» قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردّهما على لفظ الغَيْبة المتكرر قبله، وهو قوله: { مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }. وقوله: { قَالُواْ بَلَىٰ } أيضاً لفظ غيبة. وكذا { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } «وَلَعلَّهُمْ» فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما؛ ردّوه على لفظ الخطاب المتقدّم في قوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }. ويكون «شَهِدْنَا» من قول الملائكة. لما قالوا «بَلىٰ» قالت الملائكة: { شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ } «أَوْ تَقُولُوا» أي لئلا تقولوا: وقيل: معنىٰ ذلك أنهم لما قالوا بلىٰ، فأقروا له بالربوبية، قال الله تعالىٰ للملائكة ٱشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسُّدِّي. وقال ٱبن عباس وأبي بن كعب: قوله «شَهِدْنَا» هو من قول «بني آدم» والمعنى: شهدنا أنك ربُّنا وإلٰهُنَا، وقال ابن عباس: أشهد بعضهم على بعض؛ فالمعنىٰ على هذا قالوا بلىٰ شهد بعضنا على بعض؛ فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على «بلىٰ» ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم؛ لأن «أن» متعلقة بما قبل بلىٰ، من قوله: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } لئلا يقولوا: وقد روىٰ مجاهد عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا" . أي شهدنا عليكم بالإقرار بالرُّبوبية لئلا تقولوا. فهذا يدلّ على التاء. قال مَكِّيّ: وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل: إن قوله «شَهِدْنَا» من قول الله تعالى والملائكة. والمعنىٰ: فشهدنا على إقراركم؛ قاله أبو مالك، وروي عن السّدِّي أيضاً. { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } أي اقتدينا بهم. { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } بمعنى: لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلِّد في التوحيد.