التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٥٥
-الأعراف

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ } هذا أمرٌ بالدعاء وتعبُّد به. ثم قرن جلّ وعز بالأمر صفاتٍ تحسُنُ معه، وهي الخشوع والاستكانة والتضرع. ومعنى «خُفْيَةً» أي سراً في النفس ليبعد عن الرياء؛ وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبراً عنه: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3]. ونحوه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الذكر الخفيُّ وخيرُ الرزق ما يكفي" . والشريعة مقرّرة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر. وقد تقدّم هذا المعنى في «البقرة». قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }. وذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3]. وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذا على أن إخفاء «آمين» أولى من الجهر بها؛ لأنه دعاء. وقد مضى القول فيه في «الفاتحة». وروى مسلم عن أبي موسى قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر ـ وفي رواية في غزاة ـ فجعل الناس يجهرون بالتكبير ـ وفي رواية فجعل رجل كلما علا ثَنِيّة قال: لا إلٰه إلا الله ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس ٱرْبَعُوا على أنفسكم إنكم لستم تدعون أصَمّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم" . الحديث.

الثانية: وٱختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء؛ فكرهه طائفة منهم جُبير بن مُطْعِم وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير. ورأى شُريح رجلاً رافعاً يديه فقال: من تتناول بهما، لا أمّ لكٰ وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قطعها الله. وٱختاروا إذا دعا الله في حاجة أن يشير بأصبعه السبابة. ويقولون: ذلك الإخلاص. وكان قتادة يشير بأصبعه ولا يرفع يديه. وكره رفع الأيدي عطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم. وروي جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ذكره البخاريّ. قال أبو موسى الأشعري: "دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه" . ومثله عن أنس. وقال ابن عمر: " رفع النبيّ صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" . وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بَدْر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادًّا يديه، فجعل يهتف بربه؛ وذكر الحديث. وروى الترمذيّ عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. قال: هذا حديث صحيح غريب. وروى ابن ماجه عن سَلمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربكم حيّ كريم يستحيـي من عبده أن يرفع يديه إليه فيردّهما صَفْراً أو قال خائبتين" . احتج الأوّلون بما رواه مسلم عن عمارة بن رُوَيبة "ورأى بِشر بن مَرْوان على المنبر رافعاً يديه فقال: قبّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا؛ وأشار بأصبعه المسبِّحة" . وبما روى سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة أن أنس بن مالك حدّثه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفعهما حتى يُرَى بياضُ إبطيْه" . والأوّل أصحّ طُرُقاً وأثبت من حديث سعيد بن أبي عَروبة؛ فإن سعيداً كان قد تغير عقله في آخر عمره. وقد خالفه شعبة في روايته عن قتادة عن أنس بن مالك فقال فيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيْه" . وقد قيل: إنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن الرفع عند ذلك جميل حسن؛ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويوم بَدْر.

قلت: والدعاء حَسَن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، والتذلل له والخضوع. فإن شاء ٱستقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا؛ فقد فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في الأحاديث. وقد قال تعالى: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }. ولم يرد صفة من رفع يدين وغيرها. وقال: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً } [آل عمران: 191] فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر. وقد دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة.

الثالثة: قوله تعالى: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عامّاً (إلى هذا هي الإشارة). والمعتدي هو المجاوز للحدّ ومرتكب الحظر. وقد يتفاضل بحسب ما ٱعتدى فيه. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء" . أخرجه ٱبن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة. حدّثنا عفّان حدّثنا حماد بن سلمة أخبرنا سعيد الجُرَيْرِيّ عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفّل سمع ٱبنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: أي بني، سَلِ الله الجنة وعُذْ بِه من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء" . والاعتداء في الدعاء على وجوه: منها الجهر الكثير والصياح؛ كما تقدم. ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبيّ، أو يدعو في محال؛ ونحو هذا من الشطط. ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك. ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة؛ فيتخير ألفاظاً مفقرة وكلمات مسجّعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معوّل عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسولُه عليه السلام. وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء؛ كما تقدم في «البقرة» بيانه.