التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٧
-الأنفال

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأُولى ـ قوله تعالىٰ: { أَسْرَىٰ } جمع أسِير؛ مثلُ قتيل وقتْلَىٰ وجَريح وجَرْحَىٰ. ويُقال في جمع أسير أيضاً: أُسَارَى (بضم الهمزة) وأَسارَى (بفتحها) وليست بالعالية. وكانوا يَشُدّون الأسير بالقِدّ وهو الإسار؛ فسُمِّيَ كل أخِيذ وإن لم يُؤسر أسيراً. قال الأعشى:

وقَيَّدنِي الشّعر في بيتِهِكما قَيّد الآسِراتُ الحِمارا

وقد مضى هذا في سورة «البقرة». وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثَقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون رَبْطاً. وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب.

الثانية ـ هذه الآية نزلت يوم بدر، عتاباً من الله عزّ وجلّ لأصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان. ولهم هذا الإخبارُ بقوله { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا }. والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قطّ عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب؛ فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجهاً بسبب من أشار على النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ الفِدية. هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره. وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم يَنْه عنه حين رآه من العَرِيش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة، ولكنه عليه السَّلام شغَله بَغْتُ الأمر ونزولُ النصر فترك النّهي عن الاستبقاء؛ ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم. روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدّم أوّله في «آل عمران» وهذا تمامه. قال أبو زُمَيل: "قال ابن عباس: فلما أسروا الأُسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العمّ والعشِيرة، أرى أن تأخذ منهم فِديةً، فتكون لنا قوّة على الكفار، فعسىٰ الله أن يهدِيهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يٱبن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنا فنضرب أعناقهم، فَتُمَكِّن عَلِيّاً من عَقِيل فيضِربَ عنقه، وتمكِّنِّي من فلان (نَسِيباً لعمر) فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها. فَهِويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلتُ؛ فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ قاعِدَيْن يبكيان؛ فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبُك؛ فإن وجدتُ بكاء بكيتُ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَبْكي للذي عَرض عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء لقد عُرض عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرةِ" (شجرةٌ قريبةٌ كانت من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عزّ وجلّ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } إلى قوله تعالىٰ: { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } فأحّل الله الغنيمة لهم. وروى يزيد بن هارون قال: أخبرنا يحيى قال حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مُرة عن أبي عبيدة "عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر: يا رسول الله قومُك وأهلُك، ٱستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فٱضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: ٱنظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم. فقال العباس وهو يسمع: قطعتَ رحِمك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئاً. فقال أُناس: يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه. وقال أُناس: يأخذ بقول عمر. وقال أُناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليُلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويُشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة. مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 118]. ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السَّلام إذ قال { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26]. ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السَّلام إذ قال { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 88] أنتم عالة فلا ينفلتنّ أحد إلاَّ بفداء أو ضربة عنق. فقال عبد الله: ألاَّ سُهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما رأيتني أخوف أن تقع عليّ الحجارة من السماء منِّي في ذلك اليوم. فأنزل الله عزّ وجلّ: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } إلى آخر الآيتين" . في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كاد ليصيبنا في خلاف ٱبن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلاَّ عُمر" . وروى أبو داود عن عمر قال: لما كان يوم بدر وأخذ ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الفداء، أنزل الله عزّ وجلّ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } إلى قوله { لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ } ـ من الفداء ـ { عَذَابٌ عَظِيمٌ }. ثم أحل الغنائم. وذكر القُشيرِيّ أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله، إنه أوّل وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحبّ إليّ. والإثخان: كثرة القتل؛ عن مجاهد وغيره. أي يبالغ في قتل المشركين. تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ. وقال بعضهم: حتى يُقهِر ويَقْتُل. وأنشد المفضّل:

تصلّي الضحى ما دهرها بتعبّدوقد أثخنت فرعون في كفره كفرا

وقيل: «حَتَّىٰ يُثْخِنَ» يتمكّن. وقيل: الإثخان القوّة والشدّة. فأعلم الله سبحانه وتعالىٰ أن قتل الأسرى الذين فُودُوا ببدر كان أولى من فدائهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كفروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا في الأسارى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [محمد: 4] على ما يأتي بيانه في سورة «القتال» إن شاء الله تعالىٰ. وقد قيل: إنما عُوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملّك. وذلك كله عظيم الموقع، فكان حقهم أن ينتظروا الوَحْيَ ولا يستعجلوا؛ فلما ٱستعجلوا ولم ينتظروا توجّه عليهم ما توجّه. والله أعلم.

الثالثة ـ أسند الطبرِيّ وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويُقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قُتلوا وسَلِمتم. فقالوا: نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون" . وذكر عبد بن حُميد بسنده أن جبريل عليه السَّلام نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا وقد مضى في «آل عمران» القول في هذا. وقال عَبيدة السَّلْمَانِيّ: طلبوا الخِيرتين كلتيهما؛ فقتل منهم يوم أُحُد سبعون. وينشأ هنا إشكال وهي:

الرابعة ـ وهو أن يُقال: إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله «لَمَسَّكُمْ». فالجواب ـ أن التوبيخ وقع أوّلاً لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك. ومما يدلّ على ذلك أن المِقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عُقبة بن أبي مُعَيط: أسيري يا رسول الله. وقال مُصعب بن عُمير للذي أسر أخاه: شُدّ عليه يدك، فإن له أمّاً موسرة. إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء. فلما تحصّل الأسارى وسِيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتلَ في النّضر وعقبةَ وغيرِهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عزّ وجلّ؛ فٱستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ، فمرّ عمر على أوّل رأيه في القتل، ورأى أبو بكر المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء. ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر. وكلا الرأيين ٱجتهاد بعد تخيير. فلم ينزل بعدُ على هذا شيء من تعنيت. والله أعلم.

الخامسة ـ قال ابن وهب: قال مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ }. وكانوا يومئذ مشركين وفادَوْا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا. وكان عِدّة من قُتل منهم أربعة وأربعين رجلاً؛ ومثلهم أسِروا. وكان الشهداء قليلاً. وقال عمرو بن العلاء: إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى كذلك. وكذلك قال ابن عباس وابن المسيِّب وغيرهم. وهو الصحيح كما في صحيح مسلم؛ فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر البَيْهَقِيّ قالوا: فجيء بالأسارى وعليهم شُقْران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلاً الذين أُحصوا، وهم سبعون في الأصل، مُجْتَمَع عليه لا شك فيه. قال ابن العربيّ: إنما قال مالك «وكانوا مشركين» لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني مسلم. وفي رواية أن الأسارى قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: آمنا بك. وهذا كله ضعّفه مالك، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غَزوه في أُحد. قال أبو عمر بن عبد البر: اختلفوا في وقت إسلام العباس؛ فقيل: أسلم قبل يوم بدر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من لَقِيَ العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرهاً" . وعن ٱبن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "إن أُناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقِي أبا الْبَخْتَرِيّ فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرهاً" وذكر الحديث. وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر. وذكر أنه أسلم عام خيبر، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا" .