التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٢٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٧
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٨
يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأَرْضِ } أرض مكة يستضعفكم قريش، والخطاب للمهاجرين. وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم. { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ } كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعاً معادين لهم مضادين لهم. { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم. { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } على الكفار أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر. { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } من الغنائم. { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعم.

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } بتعطيل الفرائض والسنن، أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون، أو بالغلول في المغانم. وروي: (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء بأرض الشام، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت. فشد نفسه على سارية في المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام "يجزيك الثلث أن تتصدق به" وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه. { وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ } فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو. { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم تخونون، أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح.

{ وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ } لأنهم سبب الوقوع في الإِثم أو العقاب، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة. { وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم، فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه.

{ يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات، أو نجاة عما تحذرون في الدارين، أو ظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح. { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } ويسترها. { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } بالتجاوز والعفو عنكم. وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر. وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم. { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمل.

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه. من مكرهم واستيلائه عليهم، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك. { لِيُثْبِتُوكَ } بالوثاق أو الحبس، أو الإِثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وقرىء { لِيُثْبِتُوكَ } بالتشديد «وليبيتوك» من البيات «وليقيدوك». { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بسيوفهم. { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت، فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم، فقال هشام بن عمر ورأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع، فقال بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه. فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريل النبي عليهما السلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة، فبيت علياً رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار. { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } برد مكرهم عليهم، أو بمجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا. { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا ما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم.