التفاسير

< >
عرض

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٩١
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٩٢
-النحل

تفسير القرآن العظيم

هذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلاَْيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ولا تعارض بين هذا وبين قوله: { { وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لاَِيْمَـٰنِكُمْ } [البقرة: 244] الآية، وبين قوله تعالى: { { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَـٰنَكُمْ } [المائدة: 89] أي: لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا، وهي قوله: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في قوله: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يعني: الحلف، أي: حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد هو ابن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا هو ابن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة" وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.

وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا، فمعناه: أنه آخى بينهم، فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك، والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا عبد الله بن موسى، أخبرنا أبو ليلى عن بريدة في قوله: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقال: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام، { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يداً، ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون فصل بيني وبينه" المرفوع منه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه، عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرط لأخيه شرطاً لا يريد أن يفي له به، فهو كالمدلي جاره إلى غير منعة"

وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها. وقوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا } قال عبد الله بن كثير والسدي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئاً، نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرجح وأظهر، سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا. وقوله: { أَنكَـٰثًا } يحتمل أن يكون اسم مصدر، { نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا } أي: أنقاضاً، ويحتمل أن يكون بدلاً عن خبر كان، أي: لا تكونوا أنكاثاً، جمع نكث من ناكث، ولهذا قال بعده: { تَتَّخِذُونَ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } أي: خديعة ومكراً { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي: تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم، فنهى الله عن ذلك؛ لينبه بالأدنى على الأعلى، إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.

وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى، وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم، وهم غارون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عبسة: الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقدة حتى ينقضي أمدها" فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش، قال ابن عباس: { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي: أكثر، وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فنهوا عن ذلك. وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه. وقوله: { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } قال سعيد بن جبير: يعني: بالكثرة، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: أي: بأمره إياكم بالوفاء بالعهد { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.