يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك: {أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰماً وَرُفَـٰتاً} أي: تراباً، قاله مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: غباراً، {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي: يوم القيامة بعدما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر؛ كما أخبر عنهم في الموضع الآخر:
{ يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَـٰفِرَةِ أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [النازعات: 10 ـ 12]. وقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ } [يس: 78] الآيتين، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات، {أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ} قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك، فقال: هو الموت، وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية: لو كنتم موتى لأحييتكم، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم، ومعنى ذلك: أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة، لأحياكم الله إذا شاء، فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده. وقد ذكر ابن جرير ههنا حديثاً:
"يجاء بالموت يوم القيامة، وكأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، ثم يقال: يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت" وقال مجاهد: {أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ} يعني: السماء والأرض والجبال، وفي رواية: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله بعد موتكم، وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في قوله: {أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال مالك: ويقولون: هو الموت. وقوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر شديداً {قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً، ثم صرتم بشراً تنتشرون، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال
{ وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] الآية، وقوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاء، وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها، لأن إنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل، ومنه قيل للظليم، وهو ولد النعامة: نغض؛ لأنه إذا مشى عجل بمشيته، وحرك رأسه، ويقال: نغضت سنُّه إذا تحركت وارتفعت من منبتها، وقال الراجز:ونَغَّضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها
وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ} إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك، كما قال تعالى: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [الملك: 25] وقال تعالى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 18]. وقوله: {قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} أي: احذروا ذلك، فإنه قريب سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت آت. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} أي: الرب تبارك وتعالى { بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [الروم: 25] أي: إذا أمركم بالخروج منها، فإنه لا يخالف ولا يمانع، بل كما قال تعالى: { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [القمر: 50] { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40]. وقوله: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } [النازعات: 13 ـ 14] أي: إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: تقومون كلكم إجابة لأمره، وطاعة لإرادته. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فتستجيبون بحمده، أي: بأمره، وكذا قال ابن جريج: وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقال بعضهم: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: وله الحمد في كل حال. وقد جاء في الحديث:
"ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون: لا إله إلا الله" وفي رواية: يقولون: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِىۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } [فاطر: 34] وسيأتي في سورة فاطر. وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ} أي: يوم تقومون من قبوركم {إِن لَّبِثْتُمْ} أي: في الدار الدنيا {إِلاَّ قَلِيلاً}، وكقوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات: 46]، وقال تعالى: { يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَـٰفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [طه: 102 ـ 104]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } [الروم: 55]، وقال تعالى: { قَـٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَآدِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون: 112 ـ 114].