التفاسير

< >
عرض

وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
٥٩
-الإسراء

تفسير القرآن العظيم

قال سنيد عن حماد بن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهباً، فأوحى الله إليه: إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن نستأني بقومك، استأنيت بهم. قال: "يا رب استأن بهم" وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما، وروى الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا، كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. وقال: "لا، بل استأن بهم" وأنزل الله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } الآية، ورواه النسائي وابن جرير به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم، عن ابن عباس، قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال: "وتفعلون؟" قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك، عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، فقال: "بل باب التوبة والرحمة" .

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري، حدثنا خلف بن تميم المصيصي عن عبد الجبار بن عمر الأبلي، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول لما نزلت { { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس: "يا آل عبد مناف إني نذير" فجاءته قريش، فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وإن سليمان سخر له الريح والجبال، وإن موسى سخر له البحر، وإن عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر لنا الأرض أنهاراً، فنتخذها محارث، فنزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يصيِّر لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهباً، فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم. وقال: فبينا نحن حوله، إذ نزل عليه الوحي، فلما سرِّي عنه، قال: "والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم، فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك، ثم كفرتم، أن يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين" ونزلت: { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } وقرأ ثلاث آيات، ونزلت: { { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ } الآية [الرعد: 31]. ولهذا قال تعالى: { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلأَيَـٰتِ } أي: نبعث الآيات، ونأتي بها على ما سأل قومك منك؛ فإنه سهل علينا، يسير لدينا، إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها، كما قال الله تعالى في المائدة: { { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [المائدة: 115] وقال تعالى عن ثمود حين سألوا آية؛ ناقة تخرج من صخرة عينوها، فدعا صالح عليه السلام ربه، فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوه، فلما ظلموا بها، أي: كفروا بمن خلقها، وكذبوا رسوله، وعقروها، فقال: { { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود: 65]. ولهذا قال تعالى: { وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } أي: دالة على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي: كفروا بها، ومنعوها شربها، وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وقوله تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلأَيَـٰتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا } قال قتادة: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات؛ لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره - ثم قال - يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" .