التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً
٤٧
وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً
٤٨
وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
٤٩
-الكهف

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: { { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } [الطور: 9 ـ 10] أي تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88] وقال تعالى: { { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 5] وقال: { { وَيَسْـأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [طه: 105 - 107] يذكر تعالى أنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً، أي سطحاً مستوياً، لا عوج فيه ولا أمتاً، أي: لا وادي ولا جبل، ولهذا قال تعالى: { وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } أي: بادية ظاهرة، ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحداً، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم، لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة: { وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } لا خَمَر فيها ولا غيابة، قال قتادة: لا بناء ولا شجر.

وقوله: { وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي: وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً؛ كما قال: { { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلأَخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الواقعة: 49 - 50] وقال: { { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود: 103]. وقوله: { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَا } يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً، كما قال تعالى: { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلْرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ: 38] ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً صفوفاً، كما قال: { { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22] وقوله: { { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 94] هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.

وقوله: { وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ } أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، { فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي: من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة { وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا } أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا { مَال ِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } أي: لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً، ولا عملاً وإن صغر، إلا أحصاها، أي ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين، نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجمعوا، من وجد عوداً فليأت به، ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به" قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم؛ كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه" .

وقوله: { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا } أي من خير وشر؛ كما قال تعالى: { { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } [آل عمران: 30] الآية، وقال تعالى: { { يُنَبَّؤُاْ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَمَ وَأَخَّرَ } [القيامة: 13] وقال تعالى: { { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق: 9] أي تظهر المخبآت والضمائر. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" أخرجاه في "الصحيحين"، وفي لفظ: "يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان" .

وقوله: { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً، ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي، ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا } [النساء: 40] الآية، وقال: { { وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } - إلى قوله: - { حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47] والآيات في هذا كثيرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أنه سمع جابر ابن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيراً، ثم شددت عليه رحلاً، فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال: العباد ـ عراة غرلاً بهما قلت: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد؛ كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقضيه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقضيه منه، حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات" .

وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة" رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله تعالى: { { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47] وعند قوله تعالى: { { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَـٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام: 38].