يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَيَسْـأَلُونَكَ } يا محمد { عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } أي: عن خبره، وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف، وقد أورد ابن جرير ههنا، والأموي في مغازيه، حديثاً أسنده، وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر: أن نفراً من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الاسكندرية، وأنه علا به ملك إلى السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقواماً وجوههم مثل وجوه الكلاب، وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.
والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه "دلائل النبوة"، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الاسكندر الثاني، وهو ابن فيليبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول، فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه، وآمن به واتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وأما الثاني، فهو اسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني، وكان وزيره ارسطاطاليس الفيلسوف المشهور. والله أعلم. وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم، وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن، فكان في زمن الخليل، كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل عليه السلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام، وقرب إلى الله قرباناً، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب "البداية والنهاية" بما فيه كفاية، ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه: كان ملكاً، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين. فقال: كان عبداً ناصحاً لله، فناصحه، دعا قومه إلى الله، فضربوه على قرنه، فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله، فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين، وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع علياً يقول ذلك. ويقال: إنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.
وقوله: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ } أي: أعطيناه ملكاً عظيماً ممكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وقوله: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم: يعني: علماً. وقال قتادة أيضاً في قوله: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } قال: منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } قال: تعليم الألسنة، قال: كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم، وقال ابن لهيعة، حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك، فإن الله تعالى قال: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار، فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب، يعني: فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه، ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق، فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي في أسباب السمٰوات، وقد قال الله في حق بلقيس:
{ { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23] أنه مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين، يسر الله له الأسباب، أي: الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي، وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سبباً، والله أعلم. وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماز قال: كنت عند علي رضي الله عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين: كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال: سبحان الله سخر له السحاب، وقدر له الأسباب، وبسط له اليد.