قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ } قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، حتى قال: هذه منسوخة بقوله:
{ { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] وفي هذا نظر؛ لأن قوله { ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ } إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم، فاقتلوهم أنتم، كما قال: { { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [التوبة: 36] ولهذا قال في الآية: { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي: لتكون همتكم منبعثة على قتالهم، كما همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً. وقوله: { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } أي: قاتلوا في سبيل الله، ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي، كما قاله الحسن البصري؛ من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ، الذين لا رأي لهم، ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
"اغزوا في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تعتدوا ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد، ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان. وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالاً: واحداً وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة، وأحد عشر، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلاً، وترك سائرها، قال: "إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم، فاستعملوهم وسلطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة" هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتدوا عليهم، فاستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً. ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبه تعالى على أن ماهم مشتملون عليه من الكفر بالله، والشرك به، والصد عن سبيله، أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل، ولهذا قال: { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } قال أبو مالك: أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. وقال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس في قوله: { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ }، يقول: الشرك أشد من القتل، وقوله: { وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم" ، يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقيل: صلحاً؛ لقوله: "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقوله: { حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَـٰفِرِينَ } يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: { { وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [الفتح: 24] وقال: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيمًا } [الفتح: 25] وقوله: { فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: فإن تركوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله؛ فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه، ثم أمر الله بقتال الكفار { حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }، أي: شرك. قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم { وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ } أي: يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" . وقوله: { فَإِنِ ٱنتَهَواْ فَلاَ عُدْوَٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } يقول تعالى: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين، فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك، فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: أن لا يقاتل إلا من قاتل. أو يكون تقديره: فإن انتهوا: تخلصوا من الظلم، وهو الشرك، فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان ههنا المعاقبة والمقاتلة كقوله:
{ { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]وقوله: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126] ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله، وقال البخاري: قوله: { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } الآية، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس ضيعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: ألم يقل الله: { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، وحتى يكون الدين لغير الله، وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب، أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المعافري، أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع: أن رجلاً أتى ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً، وتقيم عاماً، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال: يا بن أخي بني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قالوا: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: { { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ } [الحجرات: 9] { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }؟ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه، حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكأن الله عفا عنه، وأما أنتم، فكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده، فقال: هذا بيته حيث ترون.