يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مناً على من أعطوه، فلا يمنون به، على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل.
وقوله: { وَلاَ أَذًى } أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان. ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي: ثوابهم على الله لا على أحد سواه. { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة. { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي: على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها، لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى: { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { وَمَغْفِرَةٌ } أي: عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى }. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل بن عبد الله، عن عمرو بن دينار، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف، ألم تسمع قوله: { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِىٌّ } عن خلقه، { حَلِيمٌ } أي: يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم من حديث شعبة عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري، أخبرنا هشيم بن خارجة، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر" ، وروى أحمد وابن ماجه من حديث يونس بن ميسرة نحوه، ثم روى ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بما أعطى" وقد روى النسائي، عن مالك بن سعد، عن عمه روح بن عبادة، عن عتاب بن بشير، عن خصيف الجزري، عن مجاهد عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منان" ، وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال، عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن عتاب، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس، ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد قوله، وقد روي عن مجاهد، عن أبي سعيد، وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه، ولهذا قال الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى، ثم قال تعالى: { كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ } أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة؛ ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال: { وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }، ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه، قال الضحاك: والذي يتبع نفقته مناً أو أذى، فقال: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو جمع صفوانة، فمنهم من يقول: الصفوان يستعمل مفرداً أيضاً، وهو الصفا، وهو الصخر الأملس، { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } وهو المطر الشديد { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أي: فترك الوابل ذلك الصفوان صلداً، أي: أملس يابساً، أي: لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي: وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب، ولهذا قال: { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ }