التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ
٤٠
وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ
٤١
-البقرة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق؛ كما تقول: يابن الكريم افعل كذا، يابن الشجاع بارز الأبطال، يابن العالم اطلب العلم، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء: 3] فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟" قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اشهد" وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس: إن إسرائيل كقولك: عبد الله. وقوله تعالى: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِىۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى، وفيما سوى ذلك: أن فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجاهم من عبودية آل فرعون. وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب، قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: { { يَـٰقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَـٰكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَـٰلَمِينَ } [المائدة: 20] يعني في زمانهم، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِىۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: { { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلوٰةَ وَءَاتَيْتُمْ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَلاَُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاَْنْهَـٰرُ } [المائدة: 12] الآية. وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه، وأدخله الجنة، وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم قال أبو العالية: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىۤ } قال: عهده إلى عباده دين الإسلام، وأن يتبعوه. وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم، قال: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس. وقوله تعالى: { وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ } أي: فاخشون، قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة. وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ } أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم؛ من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة؛ لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال: { وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ } يعني به: القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي، بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من الله تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العاليةرحمه الله في قوله تعالى: { وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ } يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول: لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيلـ وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك، وقوله: { وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } قال بعض المعربين: أول فريق كافر به، أو نحو ذلك، قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم. قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: { بِهِ } عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: { بِمَآ أَنزَلْتُ } وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله: { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } فيعني به: أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم. وقوله تعالى: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن، يعني البصري، عن قوله تعالى: ثمناً قليلاً، قال: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها. قال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها. وقال السدي: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن. وقال أبو جعفر: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يابن آدم عَلم مجاناً عُلمتَ مجاناً، وقيل: معناه: لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب.

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علماً مما يبتغىٰ به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" فأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه، فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء، وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه، فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: "إن أحق ماأخذتم عليه أجراً كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة: «زوجتكها بما معك من القرآن» فأما حديث عبادة بن الصامت؛ أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن، فأهدى له قوساً، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود، وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده، فهو محمول عند كثير من العلماء، منهم: أبو عمر بن عبد البر، على أنه لما علمه لله، لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة، فإنه يصح؛ كما في حديث اللديغ، وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم. وقوله: { وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، ومعنى قوله: { وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ } أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه؛ من كتمان الحق، وإظهار خلافه، ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.