التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ
١١
إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٢
وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ
١٣
إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ
١٤
إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ
١٦
-طه

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { فَلَمَّآ أَتَاهَا } أي: النار، واقترب منها، { نُودِىَ يٰمُوسَىٰ } وفي الآية الأخرى: { { نُودِىَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِى ٱلأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّىۤ أَنَا ٱللَّهُ } [القصص: 30] وقال ههنا: { إِنِّىۤ أَنَاْ رَبُّكَ } أي: الذي يكلمك ويخاطبك { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي، وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيماً للبقعة. وقال سعيد بن جبير: كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل، وقيل غير ذلك، والله أعلم.

وقوله: { طُوًى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو اسم للوادي، وكذا قال غير واحد، فعلى هذا يكون عطف بيان، وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه، وقيل: لأنه قدس مرتين، وطوى له البركة وكررت، والأول أصح كقوله: { { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوىً } [النازعات: 16]. وقوله: { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } كقوله: { { إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي } [الأعراف: 144] أي: على جميع الناس من الموجودين في زمانه، وقد قيل: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم خصصتك بالتلكيم من بين الناس؟ قال: لا، قال: لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك. وقوله: { فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } أي: استمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك: { إِنَّنِىۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وقوله: { فَٱعْبُدْنِى } أي: وحدني، وقم بعبادتي من غير شريك { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىۤ } قيل: معناه: صَلِّ لتذكرني، وقيل: معناه: وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وأقم الصلاة لذكري" ، وفي "الصحيحين" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" . وقوله: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ } أي: قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها.

وقوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } قال الضحاك عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها: (أكاد أخفيها من نفسي) يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: من نفسه، وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري. وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود: (إني أكاد أخفيها من نفسي) يقول: كتمتها من الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة: أكاد أخفيها، وهي في بعض القراءات: (أخفيها من نفسي) ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء والمرسلين. قلت: وهذا كقوله تعالى: { { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النمل: 65] وقال: { { ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } [الأعراف: 187] أي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا منجاب، حدثنا أبو تميلة، حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وِقَاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير: (أكاد أخفيها)، يعني بنصب الألف وخفض الفاء، يقول: أظهرها، ثم قال: أما سمعت قول الشاعر:

دَأْبَ شَهْرَيْنِ ثُمَّ شَهْراً دَمِيكاًبِأَريكَيْنِ يُخْفِيانِ غَميراً

قال السدي: الغمير: نبت رطب ينبت في خلال يبس، والأريكين موضع، والدميك الشهر التام، وهذا الشعر لكعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } أي: أقيمها لا محالة؛ لأجزي كل عامل بعمله { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7 - 8] و { { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور: 16] وقوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } الآية، المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي: لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك، فقد خاب وخسر { فَتَرْدَىٰ } أي: تهلك وتعطب، قال الله تعالى: { { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } [الليل: 11].