التفاسير

< >
عرض

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
٣٩
ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
٤٠
-الحج

تفسير القرآن العظيم

قال العوفي عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال مجاهد والضحاك، وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي، حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم، هو البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به، وزاد: قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف، زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس.

وقوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } أي: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، كما قال: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد: 4 ــــ 6] وقال تعالى: { { قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 14 ــــ 15] وقال: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [التوبة: 16] وقال: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } [آل عمران: 142] وقال: { { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَـٰرَكُمْ } [محمد: 31] والآيات في هذا كثيرة.

ولهذا قال ابن عباس في قوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }: وقد فعل، وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة، كان المشركون أكثر عدداً، فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين، لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفاً وثمانين، قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي، يعنون أهل منى، ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أومر بهذا" فلما بغى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شذر مذر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام ومعقلاً يلجؤون إليه، شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك، فقال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ } قال العوفي عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني: محمداً وأصحابه { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } أي: ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذنب، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين، فإنه أكبر الذنوب، كما قال تعالى: { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّـٰكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ } [الممتحنة: 1] وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: { { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [البروج: 8] ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون:

لا هُمَّ لولا أنتَ ما اهتَدَيْناولا تصدَّقْنا ولا صَلَّيْنا
فأنْزلَنْ سكينةً عليناوثَبّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا
إِنَّ الأُلى قد بَغَوْا عليناإذا أرادوا فِتْنَةً أَبَيْنا

فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا: * إذا أرادوا فتنة أبينا * يقول: "أبينا" يمد بها صوته، ثم قال تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } أي: لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف { لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ } وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق { وَبِيَعٌ } وهي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها، وهي للنصارى أيضاً، قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره: أنها كنائس اليهود، وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال: هي الكنائس، والله أعلم.

وقوله: { وَصَلَوَٰتٌ } قال العوفي عن ابن عباس: الصلوات: الكنائس. وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود، وهم يسمونها صَلُوتا. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس: أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية وغيره: الصلوات: معابد الصابئين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: الصلوات مساجد لأهل الكتاب، ولأهل الإسلام بالطرق، وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله: { يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً } فقد قيل: الضمير في قوله: يذكر فيها، عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيراً. وقال ابن جرير: الصواب: لهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر، إلى أن انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عماراً، وأكثر عباداً، وهم ذوو القصد الصحيح.

وقوله: { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } كقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 7 ــــ 8]. وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديراً، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه، ومن كان القوي العزيز فناصره هو المنصور، وعدوه هو المقهور، قال الله تعالى: { { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } [الصافات: 171 ــــ 173] وقال تعالى: { كَتَبَ ٱللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّعَزِيزٌ } [المجادلة: 21].