يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور، وقام الناس من القبور، { فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي: لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه، قال الله تعالى:
{ { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [المعارج: 10 ــــ 11] أي: لايسأل القريب عن قريبه، وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره، وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا، ما التفت إليه، ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة، قال الله تعالى: { { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34 ــــ 37] الآية، وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة، جمع الله الأولين والآخرين، ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة، فليجىء فليأخذ حقه ــــ قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله، قال الله تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور ــــ هو ابن مخرمة ــــ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة، إلا نسبي وسببي وصهري" وهذا الحديث له أصل في "الصحيحين" عن المسور بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما آذاها" . وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر:
"ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم، إذا جئتم، قال رجل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان، وقال أخوه: أنا فلان بن فلان، فأقول لهم: أما النسب، فقد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي، وارتددتم القهقرى" وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه: أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبب ونسب، فإنه منقطع يوم القيامة، إلا سببي ونسبي" رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي، والحافظ الضياء في المختارة، وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً؛ إعظاماً وإكراماً، رضي الله عنه، فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي القاسم البغوي: حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر، سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة، إلا نسبي وصهري" وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا كان معي في الجنة، فأعطاني ذلك" ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو. وقوله تعالى: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي: من رجحت حسناته على سيئاته، ولو بواحدة، قاله ابن عباس، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي: الذين فازوا، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة، وقال ابن عباس: أولئك الذين فازوا بما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا، { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ } أي: ثقلت سيئاته على حسناته، { فَأُوْلَـٰۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُم } أي: خابوا وهلكوا، وفازوا بالصفقة الخاسرة. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال:
"إن لله ملكاً موكلاً بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيوقف بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه، نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه، نادى ملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً" إسناده ضيعف؛ فإن داود بن المحبر ضعيف متروك، ولهذا قال تعالى: { فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ } أي: ما كثون فيها، دائمون مقيمون فلا يظعنون، { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } كما قال تعالى: { { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } [إبراهيم: 5] وقال تعالى: { { لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } [الأنبياء: 39] الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن جهنم لما سيق لها أهلها، تلقاهم لهبها، ثم تلفحهم لفحة، فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب" وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان، حدثنا سعد بن سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } قال: "تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم" . وقوله تعالى: { وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني: عابسون. وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود: { وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ } قال: ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه، وقلصت شفتاه؟ وقال الإمام أحمد: أخبرنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله ــــ هو ابن المباركرحمه الله ــــ أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"{ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ } ــــ قال ــــ تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته" ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به، وقال: حسن غريب.