يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي: بالحق { حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } أي: حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } أي: عذاب الله بغتة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } أي: يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً؛ ليعملوا في زعمهم بطاعة الله؛ كما قال الله تعالى:
{ { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } ــــ إلى قوله ــــ { { لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } [إبراهيم: 44] فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته، ندم ندماً شديداً، هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله: { { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } ــــ إلى قوله ــــ { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [يونس: 88-89] فأثرت هذه الدعوة في فرعون، فما آمن حتى رأى العذاب الأليم { { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } ــــ إلى قوله ــــ { { وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [يونس: 90 ــــ 91] وقال تعالى: { { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [غافر: 84] الآيات. وقوله تعالى: { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ }؟ إنكار عليهم، وتهديد لهم؛ فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً: ائتنا بعذاب الله، كما قال تعالى:
{ { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } [الحج: 47] الآيات، ثم قال: { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } أي: لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان، وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم؟ { { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا } [النازعات: 46] وقال تعالى: { { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } [البقرة: 96] وقال تعالى: { { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } [الليل: 11] ولهذا قال تعالى: { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ }. وفي الحديث الصحيح:
"يؤتى بالكافر، فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله يا رب" أي: ما كأن شيئاً كان. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت:كأنَّكَ لم تُؤثر من الدَّهْرِ ليلةًإذا أنتَ أدركتَ الذي أنتَ تطلُبُ
ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه: أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم، وبعثة الرسل إليهم، وقيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } كما قال تعالى: { { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15] وقال تعالى: { { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِىۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِنَا } ــــ إلى قوله ــــ { { وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } [القصص: 59].