أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة. وقوله تعالى: { تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } أي: هذه آيات القرآن المبين، أي: البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد. وقوله تعالى: { لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ } أي: مهلك { نَّفْسَكَ } أي: مما تحرص وتحزن عليهم { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى:
{ { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8] كقوله: { { فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِمْ } [الكهف: 6] الآية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم: { لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ } أي: قاتل نفسك. قال الشاعر:أَلا أَيُّهذا الباخِعُ الحُزْنُ نَفْسَهُلِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقادِرُ
ثم قال تعالى: { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ } أي: لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً، ولكن لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري. وقال تعالى: { { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [يونس: 99]. وقال تعالى: { { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } [هود: 118] الآية، فنفذ قدره، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، ثم قال تعالى: { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي: كلما جاءهم كتاب من السماء، أعرض عنه أكثر الناس، كما قال تعالى: { { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103] وقال تعالى: { { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس: 30] وقال تعالى: { { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } [المؤمنون: 44] الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَـٰؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أي: فقد كذبوا بما جاءهم من الحق، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين، { { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء: 227] ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه، وجلالة قدره وشأنه، الذين اجترؤوا على مخالفة رسوله، وتكذيب كتابه، وهو القاهر العظيم، القادر الذي خلق الأرض، وأنبت فيها من كل زوج كريم، من زروع وثمار وحيوان. قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة، فهو كريم، ومن دخل النار، فهو لئيم { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لأَيَةً } أي: دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره، وارتكبوا نهيه. وقوله: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي: الذي عز كل شيء، وقهره وغلبه { ٱلْرَّحِيمُ } أي: بخلقه، فلا يعجل على من عصاه، بل يؤجله وينظره، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق: العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره، وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير: الرحيم بمن تاب إليه وأناب.