ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يفني بني إسرائيل، فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة، فقالوا لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم، وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن يقمن بما يقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك، فأمر بقتل الولدان عاماً، وتركهم عاماً، فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون ناس موكلون بذلك، وقوابل يَدُرْنَ على النساء، فمن رأينها قد حملت، أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها، لايقبلها إلاَّ نساء القبط، فإن ولدت المرأة جارية، تركنها وذهبن، وإن ولدت غلاماً، دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا، قبحهم الله تعالى.
فلما حملت أم موسىٰ به عليه السلام، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكراً، ضاقت به ذرعاً، وخافت عليه خوفاً شديداً، وأحبته حباً زائداً، وكان موسىٰ عليه السلام لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعاً وشرعاً، قال الله تعالى:
{ { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [طه: 39] فلما ضاقت به ذرعاً، ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها، كما قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتاً، ومهدت فيه مهداً، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه، ذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر، وربطته بحبل عندها، فلما كان ذات يوم، دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر، وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع الماء، واحتمله، حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه الجواري، فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها، فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها، ولهذا قال: { فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } الآية، قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة، لا لام التعليل، لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق، فإنه تبقى اللام للتعليل، لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه، ليجعله عدواً لهم وحزناً، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، ولهذا قال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـٰطِئِينَ } وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب كتاباً إلى قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله، وبأقداره النافذة في علمه السابق: وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن، قال الله تعالى: { { وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [القصص: 6] وقلتم أنتم: لو شاء فرعون أن يكون لموسى ولياً وناصراً، والله تعالى يقول: { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } الآية. وقوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } الآية، يعني: أن فرعون لما رآه، هم بقتله خوفاً من أن يكون من بني إسرائيل، فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه، وتذب دونه، وتحببه إلى فرعون، فقالت: { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } فقال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كذلك، وهداها الله بسببه، وأهلكه الله على يديه، وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها من رواية ابن عباس مرفوعاً عند النسائي وغيره. وقوله: { عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ } وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه. وقوله: { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي: أرادت أن تتخذه ولداً وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه. وقوله تعالى: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي: لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.