يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم، وهم مُسْتَلئمو السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم ووكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود، قال: النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان. وقال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد ابن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وهكذا رواه في المغازي معلقاً، ورواه في كتاب التفسير مسنداً عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح. ورواه النسائي أيضاً، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن أبي قتيبة، عن ابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس، الحديث. وهكذا رُوِي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف. وقال البيهقي: حدثنا أبوعبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك: أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إِلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ } أي: إِنما هم كَذَبة، أهل شك وريب في الله عز وجل. هكذا رواه بهذه الزيادة، وكأنها من كلام قتادةرحمه الله ، وهو كما قال؛ فإن الله عز وجل يقول: { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } يعني: أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال: { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني: لا يغشاهم النعاس؛ من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ } كما قال في الآية الأخرى:
{ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } [الفتح: 12] إلى آخر الآية، وهكذا هؤلاء، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإِسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إِذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم: { يَقُولُونَ } في تلك الحال: { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْءٍ } فقال تعالى: { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِىۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا } أي: يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إِسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب ابن قشير، ما أسمعه إلا كالحلم يقول: { لو كان لنا من الأَمر شيء ما قتلنا ههنا }، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا } لقول معتب، رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } أي: هذا قدر قدره الله عز وجل، وحكم حتم لا محيد عنه، ولا مناص منه. وقوله تعالى: { وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } أي: يختبركم بما جرى عليكم؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر، ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أي: ببعض ذنوبهم السابقة؛ كما قال بعض السلف: إِن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإِن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال تعالى: { وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ } أي: عما كان منهم من الفرار { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي: يغفر الذنب، ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد، وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله: { وَلَقَدْ عَفَا } ومناسب ذكره ههنا، قال الإِمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق، قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة، فقال له الوليد: ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين، قال عاصم: يقول: يوم أحد، ولم أتخلف عن بدر، ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان، قال: فقال عثمان: أما قوله: إِني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه، فقال تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ } وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر، فإِني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد، وأما قوله: إِني تركت سنة عمر، فإِني لا أطيقها، ولا هو، فأته فحدثه بذلك.