التفاسير

< >
عرض

فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ
١٩٥
-آل عمران

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي: فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر:

وداعٍ دَعا: يا مَنْ يُجِيبُ إلى النَّدَىفَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ

قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن سلمة، رجل من آل أم سلمة، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } إلى آخرها، رواه ابن مردويه، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره، فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186] وقوله تعالى: { أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } هذا تفسير للإجابة، أي: قال لهم مجيباً لهم إنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله: { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي: جميعكم في ثوابي سواء، { فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } أي: تركوا دار الشرك، وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران، { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ } أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال: { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: { { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّـٰكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } [الممتحنة: 1] وقال تعالى: { { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [البروج: 8]. وقوله تعالى: { وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: "نعم" ثم قال: "كيف قلت؟" فأعاد عليه ما قال، فقال: "نعم، إلا الذي، قاله لي جبريل آنفاً" ولهذا قال تعالى: { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَـٰتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقوله: { ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه؛ ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً، كما قال الشاعر:

إن يُعَذبْ يَكُنْ غَراماً وإِنْ يُعْــطِ جَزيلاً فَإِنَّهُ لا يُبالي

وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ } أي: عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال: قال الوليد بن مسلم، أخبرني حَريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس، لا تتهموا الله في قضائه؛ فإنه لا يبغي على مؤمن، فإذا أنزل بأحدكم شيء مما يحب، فليحمد الله، وإذا أنزل به شيء مما يكره، فليصبر وليحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب.