يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي: مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، { لاَ يَشْتَرُونَ بِـآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً }، أي: لا يكتمون بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه، وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هوداً أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص:
{ { ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } [القصص: 52 ـ 54] الآية، وقد قال تعالى: { { ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [البقرة: 121] الآية. وقد قال تعالى: { { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159]، وقال تعالى: { { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران: 113]، وقال تعالى: { قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء: 107 ـ 109] وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلاً كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: { { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } [المائدة: 82] إلى قوله تعالى: { { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا } [المائدة: 85] الآية، وهكذا قال ههنا: { أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } الآية، وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قرأ سورة: { { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1] بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه" فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه. وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استغفروا لأخيكم" فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة، فنزلت: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَـٰشِعِينَ للَّهِ } الآية، ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد، عن أنس بن مالك، بنحو ما تقدم، ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: "إن أخاكم أصحمة قد مات" ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز، فكبر عليه أربعاً، فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة، فأنزل الله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } الآية. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما مات النجاشي، كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو العباس السياري بمرو، حدثنا عبد الله بن علي الغزال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا ابن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم، فجاءه المهاجرون، فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك، وترى جرأتنا، ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: لا، دواء بنصرة الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس، قال: وفيه نزلت: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَـٰشِعِينَ للَّهِ } الآية. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني: مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قول الله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } الآية، قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه، وعرفوا الإسلام، فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبالذي اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم رواهما ابن أبي حاتم. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر منهم: "ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي" وقوله تعالى: { لاَ يَشْتَرُونَ بِـآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي: لا يكتمون ما بأيديهم من العلم؛ كما فعله الطائفة المرذولة منهم، بل يبذلون ذلك مجاناً، ولهذا قال تعالى: { أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }، قال مجاهد: { سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } يعني: سريع الإحصاء، رواه ابن أبي حاتم وغيره. وقوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } قال الحسن البصريرحمه الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذا قال غير واحد من علماء السلف، وأما المرابطة، فهي المداومة في مكان العبادة والثبات، وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم، وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" . وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي، أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أقبل عليَّ أبو هريرة يوماً، فقال: أتدري يابن أخي فيم نزلت هذه الآية: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ }؟ قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد، ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: { ٱصْبِرُواْ } أي: على الصلوات الخمس، { وَصَابِرُواْ } أنفسكم وهواكم، { وَرَابِطُواْ } في مساجدكم، { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فيما عليكم، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور عن مصعب بن ثابت، عن داود بن صالح، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بنحوه. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" ، وقال ابن جرير أيضاً: حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب" ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" ، وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد سلام البيروتي، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن، أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال: وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر؟" قلنا: نعم يا رسول الله، وما هو؟ قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة" . قال: وهو قول الله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فذلك هو الرباط في المساجد، وهذا حديث غريب من هذا الوجه جداً. وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، حدثني داود بن صالح، قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ }؟ قال: قلت: لا. قال: إنه لم يكن يابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، رواه ابن جرير، وقد تقدم سياق ابن مردويه له، وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم، وقيل: المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك، وذكر كثرة الثواب فيه، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" . (حديث آخر) روى مسلم عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان" . (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح، أخبرني أبو هانىء الخولاني: أن عمرو بن مالك الجَنْبي أخبره: أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه يَنْمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر" وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانىء الخولاني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، وحسن بن موسى وأبو سعيد وعبد الله بن يزيد، قالوا حدثنا ابن لهيعة، حدثنا مشرح بن هاعان، سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
"كل ميت يختم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث، ويأمن من الفتان" وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري، وهو عبد الله بن يزيد، به، إلى قوله: «حتى يبعث» دون ذكر: «الفتان» وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث، فهو حسن، ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد. (حديث آخر) قال ابن ماجه في سننه: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني الليث عن زهرة بن معبد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من مات مرابطاً في سبيل الله، أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع" . (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا موسى، أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من مات مرابطاً، وقي فتنة القبر، وأمن من الفزع الأكبر، وغدا عليه ريح برزقه من الجنة، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة" . (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي، عن إسحاق بن عبد الله، عن أم الدرداء، ترفع الحديث، قالت:
"من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام، أجزأت عنه رباط سنة" . (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا كهمس، حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: قال عثمان رضي الله عنه، وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلاّ الضن بكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها" وهكذا رواه أحمد أيضاً عن روح، عن كهمس، عن مصعب بن ثابت، عن عثمان. وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله ابن الزبير، قال: خطب عثمان بن عفان الناس، فقال: يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم، فليختر مختار لنفسه أو ليدع، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها" . (طريق أخرى) عن عثمان رضي الله عنه. قال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا هشام ابن عبد الملك، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت عثمان، وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه؛ ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" . ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال محمد، يعني: البخاري: أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان، وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث، والله أعلم. وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، وعنده زيادة في آخره فقال، يعني: عثمان: فليرابط امرؤ كيف شاء، هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. (حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، حدثنا محمد بن المنكدر، قال: مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط، وهو في مرابَط له، وقد شق عليه وعلى أصحابه، فقال: أفلا أحدثك يابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ أو قال: خير ـ من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وقي فتنة القبر، ونمي له عمله إلى يوم القيامة" تفرد به الترمذي من هذا الوجه، وقال: هذا حديث حسن، وفي بعض النسخ زيادة، وليس إسناده بمتصل، وابن المنكدر لم يدرك سلمان. (قلت): الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط. وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة، كلاهما عن شرحبيل بن السمط، وله صحبة، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان" وقد تقدم سياق مسلم بمفرده. (حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، حدثنا محمد بن يعلى السلمي، حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو، عن مكحول، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لرباط يوم في سبيل الله، من وراء عورة المسلمين؛ محتسباً من غير شهر رمضان، أعظم أجراً من عبادة مائة سنة؛ صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين؛ محتسباً من شهر رمضان، أفضل عند الله وأعظم أجراً، أراه قال: من عبادة ألف سنة؛ صيامها وقيامها، فإن رده الله تعالى إلى أهله سالماً، لم تكتب عليه سيئة ألف سنة، وتكتب له الحسنات، ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة" هذا حديث غريب، بل منكر من هذا الوجه، وعمر بن صبيح متهم. (حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا عيسى بن يونس الرملي، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل، سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة. السنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة" وهذا حديث غريب أيضاً، وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة. (حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح ابن محمد بن زائدة، عن عمر بن عبد العزيز، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"رحم الله حارس الحرس" فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر، فإنه لم يدركه، والله أعلم. (حديث آخر) قال أبو داود: حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية، يعني: ابن سلام، عن زيد ـ يعني: ابن سلام ـ أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية: أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
"تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله" ثم قال: "من يحرسنا الليلة" ؟ قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، فقال؛ "فاركب" فركب فرساً له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نُغْزَن من قبلك الليلة" فلما أصبحنا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: "هل أحسستم فارسكم؟" فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه، فثوب بالصلاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته، قال: "أبشروا فقد جاءكم فارسكم" فجعلنا ننظر إلي خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أرَ أحداً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل نزلت الليلة؟" قال: لا، إلا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له: "أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها" . ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة، وهو الربيع بن نافع، به. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عبد الرحمن بن شريح، سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر التَّجيبي، قال الإمام أحمد: وقال غير زيد: أبا علي التجيبي، يقول: سمعت أبا ريحانة يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فأتينا ذات ليلة إلى شرف، فبتنا عليه، فأصابنا برد شديد، حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها، ويلقي عليه الحجفة، يعني: الترس، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى:
"من يحرسنا في هذه الليلة، فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل؟" فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فقال: "ادن" فدنا، فقال: "من أنت؟" فتسمى له الأنصاري، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء، فأكثر منه. فقال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أنا رجل آخر، فقال: "ادن" ، فدنوت، فقال: "من أنت؟" قال: فقلت: أبو ريحانة، فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري، ثم قال: "حرمت النار على عين دمعت ـ أو بكت ـ من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله" وروى النسائي منه: "حرمت النار" إلى آخره، عن عصمة بن الفضل، عن زيد بن الحباب، به، وعن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، به، وأتم، وقال في الروايتين: عن أبي علي التجيبي. (حديث آخر) قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا شعيب بن رُزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" ثم قال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رُزيق، قال: وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة. (قلت): وقد تقدما، ولله الحمد والمنة.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين عن زَبّان، عن سهل بن معاذ، عن أبيه معاذ بن أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا بأجرة سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }" تفرد به أحمدرحمه الله . (حديث آخر) ـ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" . فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام، ولله الحمد على جزيل الإنعام، على تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا مطرف بن عبد الله المديني، حدثنا مالك ابن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها معي، إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة.يا عابدَ الحَرَمَيْنِ لو أَبْصَرْتَنالَعَلِمْتَ أَنَّكَ في العِبادةِ تَلْعَبُ
مَنْ كانَ يَخْضِبُ خَدَّهُ بدُموعِهِفَنُحُورنا بدمائِنا تَتَخَضَّبُ
أو كانَ يُتْعِبُ خيلَهُ في باطِلٍفخيولُنا يومَ الصَّبيحَةِ تَتْعَبُ
ريحُ العَبيرِ لكُمْ ونحنُ عَبيرُناوَهَجُ السَّنابِكِ والغُبارُ الأَطْيَبُ
ولَقَدْ أتانا مِنْ مَقالِ نَبِيناقَوْلٌ صَحيحٌ صادِقُ لا يَكْذِبُ
لا يَسْتَوي وغُبارَ خَيْل اللّهِ فيأَنْفِ امرىءٍ ودخانَ نارِ تلهبُ
هذا كتابُ اللّهِ يَنْطِقُ بينَناليسَ الشهيدُ بِمَيتٍ لا يَكْذِبُ
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه، ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن، ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله، علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟" فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "فوالذي نفسي بيده لو طُوقْتَ ذلك، ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أَوَ ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له بذلك الحسنات" . وقوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي: في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" . { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا والآخرة وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في قول الله عز وجل: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني. انتهى تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنة، نسأله الموت على الكتاب والسنة آمين...