يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس، انعكس، ولهذا قال تعالى: { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فروي عن السلف عبارات كثيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات: ناسخه، وحلاله وحرامه، وأحكامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به، ويعمل به. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: المحكمات قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } والآيات بعدها. وقوله تعالى:
{ { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ } [الإسراء: 23] إلى ثلاث آيات بعدها. ورواه ابن أبي حاتم، وحكاه عن سعيد بن جبير، به قال: حدثنا أبي، حدّثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر، وأبا فاختة، تراجعا في هذه الآية، وهي: { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } فقال أبو فاختة: فواتح السور، وقال يحيى بن يعمر: الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحرام. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير: هنّ أمّ الكتاب، يقول: أصل الكتاب، وإنما سمّاهنّ أمّ الكتاب لأنهنّ مكتوبات في جميع الكتب. وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ. وقيل في المتشابهات: إنهن المنسوخة، والمقدم منه والمؤخر، والأمثال فيه، والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، قاله مقاتل بن حيان، وعن مجاهد: المتشابهات يصدق بعضها بعضاً. وهذا إنما هو في تفسير قوله: { ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ } [الزمر: 23] هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين؛ كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار وحال الفجار، ونحو ذلك. وأما ههنا، فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يساررحمه الله حيث قال: منه آيات محكمات، فهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف عما وضعن عليه، قال: والمتشابهات في الصدق، ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد؛ كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق. ولهذا قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ } أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم، فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: { ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ } أي: الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم؛ كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله:
{ { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـٰهُ مَثَلاً لِّبَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ } [الزخرف: 59] وبقوله: { { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد ورسول من رسل الله. وقوله تعالى: { وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ } أي: تحريفه على ما يريدون. وقال مقاتل بن حيان والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } إلى قوله: { إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } فقال:
"إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم" هكذا وقع الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ليس بينهما أحد، وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، كلاهما عن أيوب عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة عنها، ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب به، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب، وكذا رواه غير واحد عن أيوب، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به، ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي، ولقبه عارم: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به، وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة فرواه الترمذي عن بندار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخراز، فذكره، وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى الأبح، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة. ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به. وقال نافع في روايته: عن ابن أبي مليكة، حدثتني عائشة، فذكره. وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ } إلى قوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم" لفظ البخاري. وكذا رواه الترمذي أيضاً، عن بندار عن أبي داود الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري به؛ وقال: حسن صحيح؛ وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد. وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا القاسم؛ كذا قال. وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ }؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم" وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ }، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاحذروهم" ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد عن أبي غالب، قال: سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ } قال: "هم الخوارج" . وفي قوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] قال: "هم الخوارج" وقد رواه ابن مردويه من غير وجه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة مرفوعاً، فذكره، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم، وهو ذو الخويصرة: بقر الله خاصرته: اعدل، فإنك لم تعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني" . فلما قفّى الرجل، استأذن عمر بن الخطاب، وفي رواية: خالد بن الوليد في قتله، فقال: "دعه؛ فإنه يخرج من ضئضىء هذا، أي: من جنسه، قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم" ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب، وقبائل وآراء، وأهواء، ومقالات، ونحل كثيرة منتشرة، ثم نبعت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" ، أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن بن جندب بن عبد الله، أنه بلغه عن حذيفة، أو سمعه منه، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر:
"إن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن، ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله" لم يخرجوه. وقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } اختلف القراء في الوقف ههنا.، فقيل: على الجلالة؛ كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نَهيك وغيرهم. وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير: حدثنا هاشم بن مزيد، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال، فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب، فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ } الآية، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه" غريب جداً. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن عمرو، أخبرنا هشام بن عمار، حدثنا ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به" وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه، قال: كان ابن عباس يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون: آمنا به، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به، ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، وكذا عن أبي بن كعب، واختار ابن جرير هذا القول. ومنهم من يقف على قوله: { وَٱلرَٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }، وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون: آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس، وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } الذي أراد ما أراد { إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ }، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضاً، فنفذت الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، فقال:
"اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال: التأويل يطلق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: { { وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰىۤ مِن قَبْلُ } [يوسف: 100] وقوله: { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } [الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله: { وَٱلرَٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } مبتدأ و { يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ } خبره، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان، والتعبير عن الشيء؛ كقوله: { { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [يوسف: 36] أي: بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على: { وَٱلرَٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }؛ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا يكون قوله: { يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ } حالاً منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ } إلى قوله { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا } الآية، وقوله تعالى: { { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22] أي: وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً. وقوله إخباراً عنهم: { يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ }، أي: المتشابه، { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } أي: الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، كقوله:
{ { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً } [النساء: 82]، ولهذا قال تعالى: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا فياض الرقي، حدثنا عبد الله بن يزيد، وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنساً وأبا أمامة وأبا الدرداء رضي الله عنهم، قال: حدثنا أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم، فقال: "من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن أعفّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم" ، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه" وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار، عن ابن أبي حازم، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب به، وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر ــــ قالها ثلاثاً ــــ ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله" وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي: (لا أعلمه إلا عن أبي هريرة)، وقال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني نافع بن يزيد، قال: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }، أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم، { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ } أي: من عندك { رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً، { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قالا جميعاً: حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:
"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ثم قرأ: { ، ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعها تحدث: أن رسول الله، كان يكثر من دعائه: اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك قالت: قلت: يا رسول الله وإن القلب ليتقلب؟ قال: نعم، ماخلق الله من بني آدم من بشر إلا قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام به مثله، ورواه أيضاً عن المثنى عن الحجاج بن منهال عن عبد الحميد بن بهرام به مثله، وزاد: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن، ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد الخلال، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله، أخبرنا سعيد بن بشير عن قتادة، عن حسان الأعرج، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله كثيراً ما يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }»؟ غريب من هذا الوجه، ولكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة، وقد رواه أبو داود والنسائي وابن مردويه من حديث أبي عبد الرحمن المقري، زاد النسائي وابن حبان وعبد الله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب: حدثني عبد الله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب، عن عائشة رضي الله عنها. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استقيظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت، سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمة، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" لفظ ابن مردويه. وقال عبد الرزاق: عن مالك، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عبادة بن نسي: أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، وقرأ في الركعة الثالثة، قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } الآية. قال أبو عبيد: وأخبرني عبادة بن نسي أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، فقال عمر لقيس: كيف أخبرتني عن أبي عبد الله؟ قال عمر: فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك، فقال له رجل: على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك، قال: كنت أقرأ: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]، وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي، كلاهما عن أبي عبيد، به، وروى هذا الأثر الوليد أيضاً عن ابن جابر، عن يحيى بن يحيى الغساني، عن محمود بن لبيد، عن الصنابحي، أنه صلى خلف أبي بكر المغرب، فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة، فلما قام إلى الثالثة، ابتدأ القراءة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه، فقرأ هذه الآية: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } الآية. وقوله: { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي: يقولون في دعائهم: إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم، وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.