يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } إما من البحر؛ كما ذكره غير واحد، أو مما يشاء الله عز وجل، { فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ } أي: يمده فيكثره وينميه، ويجعل من القليل كثيراً، ينشىء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة؛ كما قال تعالى:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } ــــ إلى قوله ــــ { كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57] وكذلك قال ههنا: { ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة: يعني: قطعاً. وقال غيره: متراكماً؛ كما قاله الضحاك. وقال غيره: أسود من كثرة الماء، تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض. وقوله تعالى: { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي: فترى المطر، وهو القطر، يخرج من بين ذلك السحاب، { فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي: لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } معنى الكلام: أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر، كانوا قنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم، جاءهم على فاقة، فوقع منهم موقعاً عظيماً، وقد اختلف النحاة في قوله: { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } فقال ابن جرير: هو تأكيد، وحكاه عن بعض أهل العربية. وقال آخرون: من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله، أي: الإنزال، لمبلسين، ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس، ويكون معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبله أيضاً قد فات عندهم نزوله وقتاً بعد وقت، فترقبوه في إبانه، فتأخر، ثم مضت مدة فترقبوه فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة، أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءَاثَـٰرِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ } يعني: المطر { كَيْفَ يُحْىِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال تعالى: { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ } أي: إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات { إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } ثم قال تعالى: { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } يقول تعالى: { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه، فرأوه مصفراً، أي: قد أصفر وشرع في الفساد، لظلوا من بعده، أي: بعد هذا الحال، يكفرون، أي: يجحدون ما تقدم إليهم من النعم؛ كقوله تعالى:
{ { أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ــــ إلى قوله ــــ { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [الواقعة: 63 ــــ 67]. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم والصرصر، وهما في البر، والعاصف والقاصف، وهما في البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحاً للسحاب تلقحه بحمله الماء؛ كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيماً، وأودعه عذاباً أليماً، وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فجعله صرصراً وعاتياً ومفسداً لما يمر عليه، والرياح مختلفة في مهابّها: صَبا ودَبور، وجَنوب وشَمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف، فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجففه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تسيره وتصلبه، وأخرى توهنه وتضعفه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب، حدثنا عمي، حدثنا عبد الله بن عياش، حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"الريح مسخرة من الثانية ــــ يعني: الأرض الثانية ــــ فلما أراد أن يهلك عاداً، أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً تهلك عاداً، فقال: يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور، قال له الجبار تبارك وتعالى: لا، إذاً تكفأ الأرض وما عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم، فهي التي قال الله في كتابه: { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ }" هذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه.