التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
-سبأ

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العدد والعدد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به، تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات، والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال صلى الله عليه وسلم "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ومعنى قوله تعالى: { أَوِّبِي } أي: سبحي، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى: سبحي، بلسان الحبشة، وفي هذا نظر، فإن التأويب في اللغة هو الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه ــــ "الجمل" ــــ في باب النداء منه: { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي: سيري معه بالنهار كله، والتأويب: سير النهار كله، والإسآد سير الليل كله، وهذا لفظه، وهو غريب جداً، لم أره لغيره، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة، لكنه بعيد في معنى الآية ههنا، والصواب أن المعنى في قوله تعالى: { أَوِّبِي مَعَهُ } أي: رجعي مسبحة معه؛ كما تقدم، والله أعلم.

وقوله تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم: كان لا يحتاج أن يدخله ناراً، ولا يضربه بمطرقة، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط، ولهذا قال تعالى: { أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ } وهي الدروع. قال قتادة: وهو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا ابن سماعة، حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعاً، فيبيعها بستة آلاف درهم، ألفين له ولأهله، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع. وقال مجاهد في قوله تعالى: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها، واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم، ولا تدقه فيقلق، وهكذا روي عن قتادة وغير واحد، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السرد: حلق الحديد. وقال بعضهم: يقال: درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق، واستشهد بقول الشاعر:

وعليهما مَسْرودتان قَضاهُماداودُ أَو صنع السوابغ تبع

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه الصلاة والسلام من طريق إسحاق بن بشر، وفيه كلام، عن أبي إلياس عن وهب بن منبه ما مضمونه: أن داود عليه السلام كان يخرج متنكراً، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحداً إلا أثنى عليه خيراً في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب: حتى بعث الله تعالى ملكاً في صورة رجل، فلقيه داود عليه الصلاة والسلام، فسأله كما كان يسأل غيره، فقال: هو خير الناس لنفسه ولأمته، إلا أن فيه خصلة، لو لم تكن فيه، كان كاملاً. قال: ما هي؟ قال: يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين، يعني: بيت المال، فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عز وجل في الدعاء أن يعلمه عملاً بيده يستغني به ويغني به عياله، فألان الله عز وجل له الحديد، وعلمه صنعة الدروع، فعمل الدروع، وهو أول من عملها، فقال الله تعالى: { أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ } يعني: مسامير الحلق، قال: وكان يعمل الدرع، فإذا ارتفع من عمله درع، باعها فتصدق بثلثها، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يوماً بيوم إلى أن يعمل غيرها، وقال: إن الله أعطى داود شيئاً لم يعطه غيره من حسن الصوت، إنه كان إذا قرأ الزبور، تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج، إلا على أصناف صوته عليه السلام، وكان شديد الاجتهاد، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير،وكان قد أعطي سبعين مزماراً في حلقه. وقوله تعالى: { وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً } أي: في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي من ذلك شيء.