التفاسير

< >
عرض

ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧
إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ
١٨
وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠

تفسير القرآن العظيم

يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد، والأيد القوة في العلم والعمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما، والسدي وابن زيد: الأيد: القوة، وقرأ ابن زيد: { { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَـٰهَا بِأَيْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47] وقال مجاهد: الأيد: القوة في الطاعة. وقال قتادة: أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة، وفقهاً في الإسلام، وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف الدهر، وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى وأنه كان أوابا" ، وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه.

وقوله تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِشْرَاقِ } أي: إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار؛ كما قال عز وجل: { { يَٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } [سبأ: 10] وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه، وترجع بترجيعه، إذا مر الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء، ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات، ترجع معه، وتسبح تبعاً له. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه بلغه أن أم هانىء رضي الله عنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، صلى الضحى ثمان ركعات، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة، يقول عز وجل: { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِشْرَاقِ } ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يصلي الضحى، فأدخلته على أم هانىء رضي الله عنها، فقلت: أخبري هذا ما أخبرتني به، فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي، ثم أمر بماء صب في قصعة، ثم أمر بثوب، فأخذ بيني وبينه، فاغتسل، ثم رش ناحية البيت، فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى، قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء، قريب بعضهن من بعض، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن: { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِشْرَاقِ } وكنت أقول: أين صلاة الإشراق؟ وكان بعد يقول: صلاة الإشراق، ولهذا قال عز وجل: { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً } أي: محبوسة في الهواء { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي: مطيع يسبح تبعاً له، وقال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي: مطيع.

وقوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي: جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كان أشد أهل الدنيا سلطاناً، وقال السدي: كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، وقال بعض السلف: بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفاً، لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل، وقال غيره: أربعون ألفاً مشتملون بالسلاح. وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقراً، فأنكر الآخر، ولم يكن للمدعي بينة، فأرجأ أمرهما، فلما كان الليل، أمر داود عليه الصلاة والسلام في المنام بقتل المدعي، فلما كان النهار، طلبهما، وأمر بقتل المدعي، فقال: يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري؟ فقال له: إن الله تعالى أمرني بقتلك، فأنا قاتلك لا محالة، فقال: والله يا نبي الله إن الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه، وإني لصادق فيما ادعيت، ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته، ولم يشعر بذلك أحد، فأمر به داود عليه السلام فقتل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل، وهو الذي يقول الله عز وجل: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }.

وقوله عز وعلا: { وَءَاتَيْنَـٰهُ ٱلْحِكْمَةَ } قال مجاهد: يعني: الفهم والعقل والفطنة، وقال مرة: الحكمة والعدل، وقال مرة: الصواب، وقال قتادة: كتاب الله واتباع ما فيه، فقال السدي: { الْحِكْمَةَ } النبوة. وقوله جل جلاله: { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } قال شريح القاضي والشعبي: فصل الخطاب: الشهود والأيمان. وقال قتادة: شاهدان على المدعي، أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل، أو قال: المؤمنون والصالحون، وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي. وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء، وفهم ذلك. وقال مجاهد أيضاً: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد، واختاره ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شبّة النميري، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أول من قال: أما بعد، داود عليه السلام، وهو فصل الخطاب، وكذا قال الشعبي: فصل الخطاب: أما بعد.