التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٤٢
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
١٤٣
-النساء

تفسير القرآن العظيم

قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى: { { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة: 9]، وقال ههنا: { إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ولاشك أن الله لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده؛ كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، كما قال تعالى: { { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [المائدة: 18] الآية، وقوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي: هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا، وكذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: { { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } ـ إلى قوله ـ { { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [الحديد: 13 ـ 15] وقد ورد في الحديث: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به" . وفي حديث آخر: "إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس، ويعدل به إلى النار" عياذاً بالله من ذلك.

وقوله: { وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ } الآية، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، إذا قاموا إليها، قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية، ولا يعقلون معناها؛ كما روى ابن مردويه من طريق عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح؛ فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه، يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية: { وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ }. وروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه، فقوله تعالى: { وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ } هذه صفة ظواهرهم؛ كما قال: { { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ } [التوبة: 54] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: { يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ } أي: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس؛ تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً؛ كصلاة العشاء في وقت العتمة، وصلاة الصبح في وقت الغلس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، ومعهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" . وفي رواية: "والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين، لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية، لحرقت عليهم بيوتهم بالنار" .

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل" . وقوله: { وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي: في صلاتهم لا يخشعون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون. وقد روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً" ، وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقوله: { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } يعني: المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً، ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك { { كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [البقرة: 20] الآية، وقال مجاهد: { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ } يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم{ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } يعني: اليهود. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيتهما تتبع" ، تفرد به مسلم، وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب، فوقف به على ابن عمر، ولم يرفعه، قال: حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك. قلت: وقد رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف ابن عبيد الله، وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن عبدة، عن عبد الله به مرفوعاً، ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله أو عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. وراه أيضاً صخر بن جويرية عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا الهذيل بن بلال عن ابن عبيد عن أبيه أنه جلس ذات يوم بمكة، وعبد الله بن عمر معه، فقال: قال أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربضين من الغنم، إن أتت هؤلاء، نطحتها، وإن أتت هؤلاء، نطحتها" فقال له ابن عمر: كذبت، فأثنى القوم على أبي خيراً، أو معروفاً، فقال ابن عمر: ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون، ولكني شاهد نبي الله إذ قال: "كالشاة بين الغنمين" فقال: هو سواء، فقال: هكذا سمعته.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا المسعودي عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: بينما عبيد بن عمير يقص، وعنده عبد الله بن عمر، فقال عبيد بن عمير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كالشاة بين ربضين، إذا أتت هؤلاء، نطحتها، وإذا أتت هؤلاء، نطحتها" ، فقال ابن عمر: ليس كذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كشاة بين غنمين" ، قال: فاحتفظ الشيخ وغضب، فلما رأى ذلك ابن عمر قال: أما إني لو لم أسمعه، لم أردد ذلك عليك.

(طريقة أخرى عن ابن عمر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عثمان بن بودويه، عن يعفر بن زوذي، قال: سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين" ، فقال ابن عمر: ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين" ورواه أحمد أيضاً من طرق عن عبيد بن عمير، عن ابن عمر، ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، هو ابن مسعود، قال: مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر، انتهوا إلى واد، فوقع أحدهم فعبر، ثم وقع الآخر، حتى إذا أتى على نصف الوادي، ناداه الذي على شفير الوادي: ويلك أين تذهب إلى الهلكة؟ ارجع عودك على بدئك، وناداه الذي عبر: هلم إلى النجاة، فجعل ينظر إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة، قال: فجاءه سيل فأغرقه، فالذي عبر هو المؤمن، والذي غرق المنافق { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ }، والذي مكث الكافر.

وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا شعبة عن قتادة { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك، قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة، دفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق، حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن، ناداه الكافر: أن هلم إلي؛ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمن: أن هلم إلي؛ فإن عندي وعندي، يحصي له ما عنده، فما زال المنافق يتردد بينهما، حتى أتى آذِيّ، فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك، قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين، رأت غنماً على نشز، فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنماً على نشز، فأتتها فشامتها فلم تعرف" ، ولهذا قال تعالى: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي: ومن صرفه عن طريق الهدى { { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } [الكهف: 17]، فإنه { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة، فلا هادي لهم، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.